يمثّل العفو صورة من صور الرحمة والتسامح والعدالة الاجتماعية التي تنم عن سمو القيم الإنسانية والرعاية والعناية التي توليها قيادتنا الرشيدة لشعبها. ولأن شهر رمضان المبارك هو شهر الرحمة والمغفرة والإنسانية والتسامح؛ فقد تجلت هذه القيم واضحة وصريحة، في العفو الملكي الكريم الصادر بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز – حفظه الله – والقاضي بالعفو عن عدد من السجناء بناءً على شروطٍ ومعاييرَ محددة. ويأتي هذا العفو الملكي تأكيداً على نهج الإصـــلاح كعقيدة ثــابــتــة وراســـخـــة لـــدولـــة الـمـؤسـسـات والقانون التي يقودها خادم الحرمين الشريفين وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – أيدهما الله – في إطار السياسات والإجراءات والجهود المستمرة الرامية إلى تحسين نظام العدالة السعودي ودعم وتنمية المجتمع وضمان حقوق الأفراد وإعادة تأهيل السجناء واندماجهم في المجتمع وذلك من خلال الإلتزام بمبادئ العدالة والمساواة والشفافية وسيادة القانون واستقلال السلطة القضائية والتوفيق بين العقوبة من جهة والظروف الإنسانية والاجتماعية للمحكوم عليهم من جهة أخرى، إيماناً منهم أن الفرصة لا تزال متاحة للجميع؛ وحتى لمن أخطأ من أبناء الوطن، للتوبة والرجوع والاندماج في مملكة الإنسانية والتسامح والسلام.
ويعكس هذا العفو الملكي، حرص القيادة الحكيمة على مصلحة الوطن والمواطن وتماسك وصلابة المجتمع السعودي وحماية نسيجه الاجتماعي وإتاحة فرصة الاندماج الإيجابي في المجتمع على نحو من شأنه تعزيز وحماية حقوق الإنسان التي كفلتها الشريعة الإسلامية والأنظمة الوطنية، وخاصة منها نظام حماية الحقوق المكفولة للسجناء والموقوفين، وبما يتفق ومنهج المملكة العربية السعودية وقيمها ومبادئها الراسخة والتزامها بالمعاهدات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها المملكة، ومنها اتفاقية مناهضة التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية؛ حيث تنسجم هذه اللفتة الكريمة مع المبادئ التي أرستها الشريعة الإسلامية، والتي تقوم على العدل والعفو عند المقدرة، وهي قيم عريقة متجذرة في نهج الدولة السعودية منذ تأسيسها، كما تنسجم مع الـرؤيـة والــمــشــروع الإصلاحي لسمو ولي العهد – حفظه الله- الذي يرتكز على الـــتـــوازن بـيـن تـعـزيـز منظومة حقوق الإنسان، وتنفيذ القوانين لحماية أمن الوطن واستقراره.
كما يعكس هذا العفو التوجهات القانونية في المملكة، حيث تنظم التشريعات، لا سيّما منها نظام الإجراءات الجزائية ونظام السجون والتوقيف، آليات الإفراج والعفو بما يضمن تحقيق أهداف العدالة الجنائية في الإصلاح والتقويم، بدلاً من الاقتصار على العقوبة والردع. ومن هذا المنطلق يمثّل العفو الملكي الكريم أيضا فرصة جديدة لمن شملهم للإندماج في المجتمع والمشاركة في مسيرة البناء والتنمية التي تشهدها المملكة؛ وهو بذلك يتماشى مع رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تمكين الأفراد من الفرص الثانية وتعزيز قيم الإنسانية والعفو والتسامح والتعايش، بما يرسّخ نظام عدالة جنائية أكثر مرونة وإنسانية من خلال منهج شامل ومتكامل ركائزه الرحمة والعفو والتسامح وحماية الحقوق والحريات وتعزيز الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلم المجتمعي مما يحقق التنمية والتقدم والبناء لصالح الوطن والمواطنين.
ومما لا شك فيه أن هذه القيم في صدارة الأولويات طيلة مسيرة بناء الدولة، ممّا أثمر عن مجتمعٍ مترابطٍ ومتكافل يقوم على الولاء للقيادة والانتماء للوطن حيث إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في المملكة علاقة استثنائية تقوم على السمع والطاعة والاحترام المتبادل والتكافل الاجتماعي، وتؤمن أن الإصلاح هو السبيل الأمثل لتعزيز الأمن والاستقرار. وبفضل هذه الرؤية الحكيمة، يتحقق التوازن بين تطبيق القانون ومنح الأفراد الفرصة للتغيير، ما يسهم في تعزيز النسيج الاجتماعي وضمان استقرار الأسر والمجتمع ككل.
وفي الختام يمكننا القول أنّ العفو الملكي يُعد ركيزة أساسية، راسخة وثابتة في النهج الملكي السامي، ونموذجاً حقيقيا لأسمى معاني حقوق الإنسان ومظهرًا من مظاهر الرحمة والتسامح التي تُميز النظام القضائي السعودي الذي لم يجعل من العقوبة والسجن انتقامًا ولا تعذيبًا ولا مدعاة للتشفي، بل فتح الباب لمن غُرّر بهم أو أضلتهم الدعوات الهادفة لزعزعة أمن واستقرار الوطن، عبر خطابات الفتنة والكراهية القائمة على التضليل وتزييف الحقائق، ليتلمسوا طريق العودة والتوبة إلى الصواب ليبقى هذا الوطن عزيزاً شامخاً تحميه الحنكة والحكمة الملكية وتلاحم والتفاف الشعب حول القيادة وتتطابق فيه معاني الدولة الحديثة، دولة سيادة القانون، ودولة العدل والانصاف، بقيم الرحمة والإنسانية والتسامح. ونحن على ثقة أن هذا العفو الإنساني سيكون دافعاً لخدمة ومصلحة وطننا وأمن مجتمعنا، ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذه المبادرة الإنسانية في موازين حسنات قيادتنا الرشيدة – حفظها الله -، وأن يديم أمننا واستقرارنا.
• أستاذ القانون الدولي المشارك
رئيس قسم القانون العام، ووكيل الكلية للتطوير والتنمية المستدامة