تتميّز العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية بعمق تاريخي واستراتيجي جعلها نموذجًا متفردًا في العالم الإسلامي. فمنذ استقلال باكستان عام 1947، كانت المملكة من أوائل الدول التي سارعت إلى الاعتراف بها، وقدمت الدعم السياسي والاقتصادي والإنساني لشعبها. ولقد عملت الرياض وإسلام آباد جنبًا إلى جنب في المحافل الدولية، وضمن إطار منظمة التعاون الإسلامي، حيث يجمعهما الحرص على تعزيز وحدة الصف الإسلامي، والتصدي لمحاولات تشويه الهوية الدينية، والدفاع عن قضايا المسلمين في فلسطين وكشمير وميانمار وغيرها من ساحات النزاع الإنساني. ولعل ما يُضفي على هذه العلاقة طابعًا استثنائيًا هو تداخل البُعد السياسي بالبُعد الروحي؛ فباكستان تنظر إلى المملكة باعتبارها الحاضن الأول للمقدسات الإسلامية، ومركز التوجيه الروحي للأمة، بينما ترى السعودية في باكستان عمقًا استراتيجيًا وعسكريًا واجتماعيًا، ورافدًا داعمًا للقضايا المشتركة، وخصوصًا في إطار العمل الإسلامي الجماعي. ولم تقتصر هذه العلاقة يومًا على مجرد البروتوكولات الدبلوماسية؛ بل برزت قوتها بوضوح خلال الأزمات الكبرى، حين وقفت المملكة إلى جانب باكستان دون تردّد، مقدمة الدعم المالي والإنساني والسياسي. ففي حروب باكستان مع الهند خلال عامي 1965 و1971، أيدت المملكة موقف إسلام آباد، وقدّمت المساعدات الضرورية، وأكدت دعمها لوحدة الأراضي الباكستانية، ورفضت أي انتهاك لسيادتها. كما تكرّر هذا الدعم في أزمة التجارب النووية الباكستانية عام 1998، حين قررت إسلام آباد خوض تجربة استراتيجية دفعت الدول الغربية إلى فرض عقوبات اقتصادية قاسية، وعزل سياسي خانق. وفي تلك اللحظة، أثبتت السعودية أنها ليست حليفًا عابرًا، فقدّمت دعماً ماليًا سخيًا، وساعدت على تزويد باكستان بالنفط بأسعار تفضيلية أو مؤجّلة الدفع، مما ساعد الاقتصاد الباكستاني على الصمود، ووفّر غطاءً سياسيًا يُخفف من تداعيات العزلة الدولية. وتكرر الموقف الإنساني للمملكة في الكوارث الطبيعية التي عصفت بباكستان، كزلزال 2005، وفيضانات 2010 و2022، حيث كانت السعودية من أوائل الدول التي أرسلت جسورًا جوية للإغاثة، وتبرّعت بمبالغ ضخمة عبر الجهات الرسمية والشعبية. وعلى امتداد العقود، عززت هذه المواقف التاريخية الروابط القائمة بين البلدين على أسس الدين والأخوة، ليتسع نطاقها وتتطور إلى شراكة راسخة تقوم على الثقة المتبادلة ووحدة المصير وتشمل كافة المجالات السياسية والاقتصادية والتنموية والأمنية والعسكرية والثقافية. ففي أكتوبر 2024، وفي إطار رؤية جديدة لتعزيز التعاون، وقّعت المملكة وباكستان 27 مذكرة تفاهم بقيمة 2.2 مليار دولار، شملت قطاعات الزراعة والطاقة والصناعة التحويلية والغذاء والتعليم والصحة والأمن السيبراني والتكنولوجيا. وارتفعت هذه الاتفاقيات لاحقا لتبلغ إلى 34 مذكرة تفاهم بقيمة 2.8 مليار دولار، مع دخول مشاريع جديدة مثل الصناعات الطبية، وتصنيع الأجهزة الجراحية، وتحويل الطاقة، والتقنيات الرقمية، مما يعكس تحولًا جذريًا في طبيعة العلاقة من منطق “الدعم” إلى منطق “الشراكة التنموية المتبادلة.” من جهة أخرى، شكّل التعاون الدفاعي والعسكري أيضا أحد الأعمدة الراسخة في العلاقات الثنائية بين البلدين. إلا أنّ الخطوة الأبرز لهذا التعاون تحققت، في 17 سبتمبر 2025، بتوقيع الرياض وإسلام آباد اتفاقًا تاريخيًا بعنوان “الاتفاق الإستراتيجي للدفاع المشترك.”
ولئن جاء هذا الاتفاق تعزيزا للعلاقات الثنائية التاريخية، وتأكيدا للمواقف الراسخة تجاه القضايا ذات الإهتمام المشترك؛ فإنّه يمثّل، بالأساس، إعلاناً عن تحالف دفاعي استراتيجي وردع مشترك ضد أي محاولات لزعزعة استقرار البلدين أو المساس بسيادتهما، والتزاماً قانونياً ودولياً بالتعاون الكامل في مواجهة التهديدات في إطار المشروعية الدولية ووفقًا للمبادئ والقوانين والأعراف والاتفاقيات الدولية لا سيما منها اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 التي تُعد المرجع الأساسي لتنظيم هذه العلاقات؛ إذ نص صراحة على أنّ “أي اعتداء على أي من البلدين يُعد اعتداءً على كليهما.”
ويُعد هذا الاتفاق تتويجًا لمسار ممتد من التعاون الأمني والعسكري بين المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية، كما يمثل انتقالًا إلى مرحلة جديدة من الشراكة الدفاعية القائمة على مبدأ وحدة المصير الأمني. ويستند الاتفاق إلى أساس قانوني راسخ يتمثل في التأصيل القانوني للاتفاقيات الدفاعية، إذ يرتكز على عضوية البلدين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتزامهما بمبادئ ميثاقها، ولا سيما ما يتعلق بحق حق الدول في الدفاع الشرعي على نفسها المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة والمادة 31 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. كما أن المملكة، بوصفها دولة مؤسسة للأمم المتحدة ومشاركة فاعلة في صياغة مبادئها الأساسية، تضفي على الاتفاق بُعدًا إضافيًا من الشرعية والمصداقية الدولية، بما يجعلها امتدادًا طبيعيًا لالتزاماتها القانونية الدولية في حماية سيادتها وأمن حلفائها. وبذلك، فإنّ الاتفاق لا يقتصر على كونه تحالفًا عسكريًا ثنائيًا، بل يمثل إطارًا شرعيًا متوافقًا مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، يعكس قدرة البلدين على حماية أراضيهما ومقدساتهما وشعبيهما من أي تهديد خارجي، ويعزز من قوة الردع المشترك ويسهم في ترسيخ أمن واستقرار المنطقة والعالم.
ومن جانب آخر، يعكس هذا الاتفاق حكمة القيادة السعودية وحرصها على اتخاذ قرارات استراتيجية تُعزز الأمن القومي للمملكة وتوطّد تحالفاتها الإقليمية والدولية. وقد أكدت القيادة، ممثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رئيس مجلس الوزراء حفظهما الله، أن أمن المملكة لا يقبل المساومة، وأن أي تهديد لمقدساتها أو شعبها أو أراضيها سيُقابل بردعٍ حازمٍ كفيلٍ بحمايتها وصون سيادتها. كما يُمثل هذا التحالف رسالة طمأنة لشعوب المنطقة، وردعًا لأي محاولات قد تستهدف استقرارها، بما يعكس التزام البلدين بتعزيز السلام والأمن الإقليمي. ومن ثم، فإنّ الاتفاق لا يقتصر على تطوير القدرات الدفاعية، بل يفتح آفاقًا واسعة للتعاون في سبيل ترسيخ الاستقرار، والحد من التدخلات الخارجية، ودعم مفهوم الأمن الجماعي.
ومع توسع الشراكة السعودية – الباكستانية، يفتح المستقبل أمام البلدين آفاقًا واعدة مليئة بالفرص والتعاون المشترك. فمشاريع رؤية السعودية 2030 تتيح فرصًا للتعاون في مجالات البنية التحتية والتقنية والنقل، فيما تشكل الكفاءات الباكستانية المؤهلة، خصوصًا في الطب والهندسة والتقنية، رافدًا مُهمًا لدعم هذه الشراكات. كما يتجه التعاون الصناعي والدفاعي إلى آفاق أرحب، مع فرص لتعزيز التكامل الاقتصادي في الأسواق الآسيوية والعربية، بما يعكس متانة الشراكة ويخدم مصالح الشعبين.
وختاما، فإنّ أهمية الاتفاق السعودي الباكستاني لا تكمن في الإعلان عنه فحسب، بل ترتبط بآليات تنفيذه، حيث يتطلب نجاحه تنسيقًا عسكريا وتعاونًا استخباراتيًا أوسع وأشمل. ومع ذلك، فإن مجرد التوقيع بحد ذاته يبعث برسالة حازمة مفادها أن البلدين يشكلان جبهة أمنية واحدة، وأن أي تهديد سيُعد اعتداءً مشتركًا. ومن هذا المنطلق، يشكّل الاتفاق محطة مفصلية في مسار العلاقات بين الرياض وإسلام آباد، وخطوة تعزز الشراكة وترتقي بها إلى مستوى جديد من الردع والتكامل الاستراتيجي.
• رئيس قسم القانون العام سابقا
وكيل كلية القانون للتطوير والتنمية المستدامة سابقا






