المقالات

محافظة السليمي والرجال الجبال!

ندب سعادة الدكتور نايف المهيلب رئيس جمعية أدبي حائل البهجة إلى قلوبنا، بالدعوة الأنيقة التي جمعت عددا من الأدباء والمثقفين من مختلف مناطق المملكة، وهي دعوة نوعية في نظري؛ يأتي ذلك من اختيار المكان الذي أزوره للمرة الأولى، محافظة السليمي جنوب منطقة حائل، المحافظة الوادعة بين التكوينات الصخرية الجذابة التي تحيط بها من مختلف الجهات، وكأنها حرس أسطوري يحمي فضاء السليمي الرحب.

أوقفت سيارتي في محطة قطار الحرمين بمكة، وبعد ساعتين تنفست أكسجين المدينة المنورة، فقابلت في محطتها الدكتور عبدالله السلمي والدكتور ظافر العمري، فاستأجرنا نزلا جوار المسجد النبوي، وكسبنا صلوات المغرب والعشاء والفجر في مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم استأجرنا سيارة وعبرنا بها مسافة 300 كيلا إلى السليمي، كان يشدهنا على امتداد الطريق منظر الحرّات وجبيلات متناثرة يتفتح لونها كلما عبرنا شمالا، وكلما مررنا بتجمع سكاني قريب من الطريق شاهدنا برجا للمياه يؤمّن احتياج السكان ويشهد لحكمة القيادة الرشيدة في خدمة المواطنين، أما التكوينات فقد تغيرت حين بلغنا محافظة السليمي، فجل تكويناتها الصخرية كتل صماء من الصخور الصلدة لا يتجاوز ارتفاعها 150 مترا تقريبا، وجبيلات أخرى من الجهة الشرقية يدخل في تكوينها التراب والصخر، فكانت جمالا يحتضن انبساط المحافظة في سهل واسع بينها.
بلغنا السليمي خلال ثلاث ساعات، وتوجهنا إلى قصر الوجيه عبدالمحسن الهُريش رحمه الله، فكان في استقبالنا الدكتور نايف ورجل الأعمال إبراهيم الهريش وأخوه يوسف وأسرتهم الكريمة، ومحافظ السليمي الأستاذ مشعل الرمالي وعدد من مثقفي حائل ووجهائها، ولن أحدثكم عن كرم الاستقبال والحفاوة، ولا عن تلك الوجوه الطلقة البشوشة وكأننا ضيوفهم الوحيدون في تلك اللحظة، التي تعطرت بشذا القهوة السعودية وأنواع متعددة من التمور الفاخرة، كانت بداية كسر روتينات الحمية التي قرر جميع الضيوف نسيانها طيلة أيام الإقامة.
كان برنامج اليوم الأول حافلا، فبعد الاستقبال الكبير، خرجنا في جولة إلى البيوت الأثرية لعائلة الهريش بدعوة من العميد سعد بن فهد الهريش، الذي شرح لنا عن قدم تلك المنازل الطينية، فبعضها تجاوز مئتي عام، لكن الأسرة عملت على صيانتها وترميمها بالأدوات والمكونات ذاتها منذ 1400هـ، فتجولنا في المجالس التي ما يزال دخان (المَشَب) يلون نصفها العلوي، وكأنها مصبوغة باللون الأسود، وهي مجالس واسعة، وعالية السقوف، ولها فتحات من جوانبها العلوية تسهّل خروج الدخان، وهم في حائل لا يسمونها مجالس، بل يسمونها (قهوة) كما ظهر في اللوحة المنصوبة أمامها، فإن كنا نسمي المجلس من فعل الجلوس فيه، فقد اختاروا أن يسموه من فعل شرب القهوة، ثم تجولنا داخل الغرف الداخلية، وكان تفصيلها مدهشا، فتدخل إلى باحة مكشوفة بها عريش مفتوح الجوانب، وعلى شمالك تجد درجا يتشعب إلى اتجاهين من منتصفه، لتصعد إلى سطحين متقابلين بهما غرف صغيرة، وأسفل منها غرف صغيرة أيضا، يقال أن كل غرفة منها كانت تسكن بها عائلة، ثم في عمق البيت دخلنا إلى غرفة حفظ الأرزاق، وفي كل زاوية منها بناء يحفظ نوعا من أنواع الحبوب والتمور، وبها مدخل سري من أثناء السقف، ربما يكون لتأمين المؤن في أوقات الطوارئ والأخطار الأمنية، باستخدام سُلّم متحركة.
القهوة أساسية في الضيافة الحائلية، فبعد فراغنا لم يتركنا آل الهريش نخرج من قهواتهم التاريخية دون أن نشرب القهوة الحائلية ونستمتع برائحة النار، وحين خرجنا توجهنا إلى مجلس أسرة الطويهر فاستقبلونا في مجلسهم (القلعة) الأنيق وتناولنا القهوة والفاكهة، ثم تجولنا في المتحف الملحق بالمجلس وسط حفاوة وترحاب كبير، وحين هممنا بالمغادرة لم يستطع الدكتور نايف أن يرد طلب عائلة المليحان المفاجئ فاستقبلنا كبير الأسرة رغم الإصابة في قدمه التي أرغمته على استخدام الكرسي المتحرك، ثم أنشدنا ابنه الشاعر محمد عددا من قصائده الشعرية الجميلة.
بعد صلاة المغرب غادرنا إلى مركز الأمير عبدالعزيز بن سعد الحضاري، وهو منشأة جميلة تستحقها كل محافظة، يتوفر على قاعة كبيرة وأنيقة، وصالات وقاعات مختلفة، ابتهجنا فيه بتكريم أدبي حائل للأديب الكبير الراحل عبدالكريم الجهيمان برعاية شركة عبدالمحسن الهريش، حيث نظموا ندوة تحدث فيها الدكتور عبداللطيف الحميد عن شخصية الجيهمان، وتألق الشاعر ماجد الجهني منشدا عددا من القصائد الشعرية التي تفاعل معها الجمهور، ثم تسلم التكريم ابنا الراحل المهندس سهيل والأستاذ ناصر الجهيمان وسط تصفيق حار من الحاضرين، والمدهش هو تعطش أبناء السليمي للفعل الثقافي، فقد حضروا من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية، ما يوجب أن تعتني الجهات الثقافية بالمحافظات والمراكز الواقعة في نطاقاتها، ثم دشنت جمعية أدبي حائل العدد الأول من مجلتها الفصلية الجديدة (أبو تمام).
عدنا إلى مقر الإقامة في القصر، وكنت قد سمعت من أحد الزملاء أننا سنسكن في خيم في فناء القصر، لكنني لم أصدق، حتى وصلنا إلى هناك، فكان الأمر حقيقيا، فقد استأجروا خيما أنيقة، وفي كل خيمة سرير فندقي بكامل أثاثه الأبيض، وإضاءة خفيفة وكرسي جلوس، وطبق فاكهة وماء، فكانت التجربة مغرية جدا، لكن البرد كان قارسا جدا، ما أزال أعاني من تمكنه من صدري، لكنني لست نادما على نوعية التجربة، ففي الخيمة فضاء مختلف لا يفصل بينك وبين العالم الخارجي سوى ساتر قماشي رقيق، تسمع كل شيء في الخارج حتى دبيب العَجَل، لكن السليمي هادئة تنام بعد صلاة العشاء، ومع صلاة الفجر صحا معظم أعضاء الوفد، واجتمعنا على النار الموقدة بأحاديث الصباح، وضحكات الرفاق، وأصناف التمر بين الهليل والمكنوز وأنواع أخرى لا أعرف أسماءها، ومستديرات الكليجا، وامتد الضحى بأحاديث الأدباء ونقاشاتهم حتى صلاة الجمعة، ثم غادرنا إلى منزل عائلة العميد سعد الهريش وإخوته، فكانت مأدبة الغداء عندهم أيضا غير المأدبة التي أقامها أبناء عمومتهم في القصر بالأمس.
بعد صلاة العصر بدأت الجولات بإصرار من أهالي المنطقة، فقد دعانا إلى القهوة بيت الحمّاد من قبيلة حرب، وكان الاستقبال بالخيول الأصيلة والأغاني الوطنية جوار جبال قنا، ثم رقصنا العرضة السعودية، وبعد ذلك انتقلنا إلى مركز مزعلة واستقبلنا الشيخ حواف الزبون من بني رشيد بطيب ترحيبه هو وجماعته الكرماء، وأخيرا اتجهنا إلى مجلس الشيخ غازي بن مريبد العازمي في وادي نَجَب، وقد اختار أن يضع مجلسه في مكان مرتفع في أعلى الوادي تحت الجبال، واستقبلنا هو وجماعته بعطر الترحاب وشذا الهيل والعود، ووادي نَجَب واد طويل يمر من بين السلاسل الجبلية، يكثر فيه شجر الطلح، والغريب أنه لم يستثمر زراعيا، فما أعرفه عن الأودية أن الأهالي يبنون مزارعهم على أطرافها ويأخذون من السيل القدر الذي يثري التربة بالطين ولا يؤثر على المزرعة، ويزرعونها على ماء المطر ذُرَة أو دخنا أو غيرها، والزراعة على ماء المطر تسمى (العَثّري).
انتقلنا بعد ذلك إلى مجلس أهالي السليمي، المجلس الكبير الذي أعدوه استقبالا للوفد، وهو المكان الذي تقاطرت فيه الكلمات البليغة من المضيفين، ثم عانقتها كلمات الضيوف وقصائدهم، فكانت ليلة قطوفها دانية وطلعها قنوان، اختتمها أهالي السليمي بمأدبة فخمة، ثم غادرنا إلى مقر الإقامة، ولأننا نعلم أن ظهر الغد السبت هو مسك الختام، ولن نستمتع بغروب الشمس في السليمي، ولأن كل واحد منا لديه قائمة بالمشاغل المؤجلة، ناهيك عن همّ طريق العودة الذي بدأ يلقي بثقله على أرواحنا؛ قررنا أن يعفينا الدكتور نايف وعائلة الهريش من وجبة الغداء المجدوَلة، فنجنّدنا لهذا المطلب أستاذنا الدكتور محمد الربيّع بهذه المهمة، وبالكاد وجدنا استجابة، كانت على مضض من المستضيفين الكرماء.
ومن أهم الملحوظات التي لفتتني في هذه الزيارة، أن رجال الأعمال الأوفياء هم عماد محافظاتهم التي نشؤوا فيها، وهذا ما لمسته من عائلة الهريش التي تقطن مدينة الخبر، لكنهم لم يقطعوا صلاتهم بالسليمي، بل ما يزالون بارين، ومن صور برهم استضافتهم الكاملة لهذا الوفد، ووفود سابقة، وليست استضافة عادية، فبعض الأثرياء ربما يتكرم بدفع التكاليف ويترك ما تبقى على المؤسسة الثقافية، لكن ما فعله آل الهريش يتجاوز هذا، فقد حضروا جميعا، الآباء وأبناؤهم وأقاربهم، ومع وجود جيش من العمالة إلا أنهم لم يتركوا لهم علينا سبيلا، فهم وأبناؤهم جالسون معنا، ويقومون على خدمتنا بأنفسهم بكل بشاشة وترحاب، ولا يغادرون المجلس حتى يغادره آخر الضيوف، ولا نصحوا إلا ونجدهم أمامنا هاشين باشين، هذا يقدم القهوة، وذاك يوزع صواني التمر، وآخران يحملان صينية الفاكهة الضخمة، وأولئك يجهزون وجبة الإفطار، وفي مجال المداخلات والمناقشات تسمع المنطق المثقف المتزن من كبارهم وصغارهم، فالحق إنهم مثال الأسرة الثرية المشرّفة.
ومن ملحوظاتي ما ذكرته سابقا عن وادي نَجَب وعدم استثماره زراعيا، فقد رأيت أهالي السليمي لا يستثمرون في الجبال، فلا يبنون في سفوحها ولا في قممها، ولا يستفيدون من الأحجار في المباني، فلم أر منزلا أو سورا مبنيا من الحجر، وكأنهم وجدوا في البناء باللبِن ضالتهم المناسبة للبيئة القارية، وهذه الملحوظات أملتها عليّ بيئتي الصخرية، وحبي للبناء بالحجر، لكن ربما لديهم أسبابهم.
ختاما، أتقدم بأعطر الشكر وأوفره لجميعة أدبي حائل رئيسا وأعضاء، ولمحافظ السليمي وأهالي المحافظة عامة، وأسرة الهريش خاصة على الدعوة وكرم الاستقبال وحفاوة الإقامة، سائلا الله للسليمي وكل محافظات الوطن الغالي مزيدا من النماء والبهاء والألق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى