المقالات

من طَعّة البروفيثور.. إلى سقطة الداهية!

في زمنٍ تاهت فيه المشاعر بين قاعات التدريس في الجامعات وبين الترزّز عبر شاشات القنوات الفضائية ومنصّات التواصل الاجتماعي، وارتدى التبلّد العاطفي ثوب الحكمة، يظهر لنا بعض المنظّرين ليقدّموا دروساً في قساوة الشعور وكأنها الفضيلة. هذا المقال ليس عن علم النفس… بل عن النفس ممن يدّعون تدريسه! في زمنٍ صار فيه التبلّد النفسي يُسوَّق على أنه صلابة، خرج علينا أحدهم ليقدّم درساً في كيف تفقد إنسانيتك بثقة، وتدّعي أنك خبير في علم النفس! يُفترض أن يكون أستاذ علم النفس أكثر الناس وعياً بمشاعر الإنسان، وأقدرهم على فهم الحزن والفرح والخسارة، لكنه لا يعلم أنه قد تحوّل إلى حالةٍ نفسيةٍ تستحق البحث والدراسة بدلاً من أن يكون هو الباحث!

أحد الخبراء المنظّرين في علم النفس ومعالجة المشكلات الاجتماعية، خرج علينا قبل أيام ليقول لنا بكل ثقة: لو طاحت درجة في الامتحان تهزّني هزاً أكثر من وفاة أمي أو أبي! قالها ببرودٍ عجيب، وكأنّ الإنسانية مجرد فصلٍ اختياري في مقررٍ دراسي يمكن تجاوزه أو حذفه دون أثر! ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف بكل فخر أنه عندما مات أبوه اشترى أرضاً، وحين ماتت أمه يوم الخميس داوم في اليوم نفسه كأن شيئاً لم يكن! يا للعجب! أيّ قلبٍ هذا الذي لا تهزّه وفاة أمّه وأبيه، لكنه يرتجف من ضياع درجة في الامتحان؟ وأيّ علم نفسٍ هذا الذي يجعل الإنسان يفهم المشاعر نظرياً فقط، دون أن يملك قلباً يحس بها؟ لقد خلط بين الصلابة والجمود، وبين التماسك واللا إنسانية، فظنّ أن انطفاء إحساسه إنجاز، وأن غياب حزنه بطولة.

الحقيقة أن صاحبنا لم يقدّم درسًا في التوازن النفسي، بل قدّم اعترافًا صريحًا بفقدان البوصلة الإنسانية. فالعِلم الذي لا يمرّ عبر القلب لا يُثمر عقلًا، والشهادة التي لا تُهذِّب صاحبها ليست شرفًا
بل عبئًا وعبثًا. بعض الأكاديميين – مع الأسف – لا يستحقون لقب بروفيسور، بل بروفيثور، لأنهم ينطحون المشاعر والعقل والإنسانية في ضربةٍ واحدة! وما بين “درجةٍ طاحت” و“أمٍ ماتت”، سقطت القيم ومعاني الرحمة، وتهاوت الأخلاق النبيلة. والأسوأ أن يظهر داعيةٌ آخر ليكمل المشهد سقوطًا، حين يحدّثنا ببرودٍ مذهل عن شراهة الناس للأكل في عزاء فقيدهم، وذعرهم من فقدان “الشطة” أكثر من فقدان والدهم المرحوم! وما بين طعّة البروفيثور و“سقطة الداهية – عفوًا، الداعية – انكشف زيف العلم وانطفأت إنسانية الوعظ، وسقطت معها القيم التي كان يُفترض أن تُصان. فيا ليت بعض المنظّرين يتعلّمون أولًا كيف يكونون بشرًا؛ قبل أن يتصدّروا المشهد لتدريس علم الإنسان أو الوعظ بالقيم الفاضلة ومكارم الأخلاق.

خاتمة:
العلم والدرجة العلمية بلا إنسانية… ليس إلا جثةً هامدة ترتدي عباءةً أكاديمية.

د. عبدالله علي النهدي

عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى