المقالات

في المكتبة؟ يا نهار أسود!

كتاب بعنوان “سبيل الحياة” لمؤلفه الكاتب والروائي المصري إبراهيم المازني، صدر في عام 1962م، في 107 صفحات. الكتاب جميل، وموضوعاته شائقة تشحذ القارئ نحو القراءة، كما تدفعه لتدوين مواقفه الحياتية ليتعلم منها أن الحياة الصعبة هي التي تنحت شخصية الرجل وتبنيها.

يُظهر محتوى الكتاب شغف كاتبه بالقراءة، إلى درجة أنه قام بطرد حماته من منزله في إحدى الليالي لأنها أنبته على قضائه وقتًا طويلًا في المكتبة بعيدًا عن زوجته، ومع ذلك لا يرى نفسه قد بلغ اطّلاع العقاد وشغفه بالقراءة.

حديثه الجميل عن والدته في بداية الكتاب أظهر مقدار عظمتها بتضحياتها، على الرغم مما لاقته من تقصير من قِبل أخيه غير الشقيق، الذي كان ممن عارضوا إكمال إبراهيم المازني لدراسته بحجة ظروفهم المادية. إلا أن إصرار والدته كان أقوى من تلك المعارضة، بل اعتبر والدته هي من صنعت رجولته المبكرة، وأقنعته بترك اللعب من أجل تحمّل مسؤولية الأسرة. أمّا والده فلم يكن له نصيب كبير في محتوى الكتاب؛ وكل ما ذُكر عنه أنه كان مزوّاجًا، ويعمل محاميًا، إلى أن توفاه الله دون أن يترك لهم كثيرًا من الأموال.

ذكر معاناته في الحياة العملية إلى درجة أنه فقد الثقة بالآخرين، مما أدى إلى اعتزاله واتخاذه بيتًا في أحد المقابر. وقد اعتبر — في مقاله بالكتاب بعنوان “أساتذتي” — أن هناك أستاذين لن ينساهما أبدًا، قد علّماه علمًا بقي أثره طوال حياته، وهما: الفقر والضعف.

تحدّث المؤلف عن بداية وظيفته عندما كان يعمل صحفيًا عام 1909م في جريدة “مصر الفتاة”، لكن نشاطه الصحفي الاحترافي أصبح قويًا بعد ثورة 1919م. تحدث عن أمانته في نشر الأخبار والتثبت من مصداقيتها قبل النشر، وعن معاناته من السرقات الصحفية من بعض زملائه في العمل، وتطرّق لمواضيع كثيرة. وكان حديثه عن طبائع النساء لافتًا، إذ بين أن الرجل لن يستطيع فهم سلوك المرأة، وسرد بعضًا من ذكرياته التي تؤكد رأيه.

وأختم بما قاله الكاتب في صفحة 62:
“تزوجت، وفي صباح ليلة الجلوة دخلت مكتبتي ورددتُ الباب، وأدرتُ عيني في رفوف الكتب؛ فراقني منها ديوان محمود الشلبي، الشاعر الأردني من أصول فلسطينية، فتناولته وانحططتُ على كرسي، وشرعتُ أقرأ، ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة. وكانوا يبحثون عني حيث يظنون أن يجدوني: في الحمّام، في غرفة الاستقبال، في المنظرة، وحتى تحت السرير بحثوا! ولم يخطر لهم قط أني في المكتبة؛ لأني عريس جديد لا يعقل — في رأيهم — أن يهجر عروسه هذا الهجر.”

ويواصل الكاتب فيقول:
“كانت أمي في المخزن تُعدّ — لا أدري ماذا — لهذا الصباح السعيد، فأنبؤوها أني اختفيت، كأنما انشقت الأرض فابتلعتني! وأنهم بحثوا ونقّبوا في كل مكان، فلم يعثروا لي على أثر؛ فما العمل؟!
ضحكت أمي، وقالت: ليس في كل مكان… اذهبوا إلى المكتبة، إنه — لا شك — فيها.”

في المكتبة؟ يا نهار أسود!

أ. د. بكري معتوق عساس

مدير جامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى