من يريد فهم ميزانية 2026 يتتبع خطًّا بدأ قبل عشر سنوات. في 2016 تراجعت أسعار النفط إلى مستويات صعبة، وانخفضت الإيرادات إلى نحو 514 مليار ريال، بينما تجاوز الإنفاق 840 مليارًا. ظهر عجز يقارب 326 مليار ريال كشف حجم الارتهان لمصدر واحد. في تلك السنة انطلقت إصلاحات واسعة: إعادة تسعير الطاقة، إطلاق ضريبة القيمة المضافة، مراجعة الدعم، وبداية رؤية 2030. كانت تلك اللحظة نقطة تحرّك فيها الاقتصاد لإعادة بناء قاعدته، وبدأت الأجهزة المالية تعمل وفق نمط مختلف عن السنوات السابقة.
عند 2019 ظهرت نتائج هذا التحول. الإيرادات وصلت إلى نحو 975 مليار ريال، والإنفاق إلى 1,106 مليارات، والعجز انخفض إلى حدود 131 مليار ريال. بدأت الإيرادات غير النفطية تبني حضورًا ثابتًا، وظهرت آثار برامج التحول الوطني في أداء القطاعات. كان هذا العام خطوة انتقالية نحو اقتصاد متعدد المصادر.
ثم جاء 2021 في مرحلة عالمية مضطربة. دخلت المملكة بتقدير عجز يقارب 141 مليار ريال، وانتهى العام بعجز فعلي يقارب 73 مليارًا. هذا النقصان أكد قدرة الدولة على إدارة المخاطر وتحويل الظروف الصعبة إلى فرصة لرفع كفاءة الإنفاق. في هذه المرحلة ارتفعت قيمة التخطيط متوسط المدى، وبدأت المالية العامة تتحرك داخل إطار استدامة واقعي.
في 2025 تسارعت وتيرة المشاريع الكبرى. أسعار النفط تحركت نحو مستويات أقل، والعجز المتوقع وصل إلى نحو 245 مليار ريال. المملكة حافظت على سرعة التنفيذ لأن العائد المتوقع للمشاريع يدور بين 8 و12%، وتكلفة التمويل أدنى من هذا العائد. كان هذا العام نقطة اختبار لمرونة المنهج الاقتصادي وقدرته على مواصلة البناء في ظل ظروف خارجية متغيرة.
على هذا المسار تصل ميزانية 2026 باعتبارها مرحلة نضج في التحول الوطني. الإيرادات تقارب 1,147 تريليون ريال، والإنفاق يصل إلى 1,313 تريليون، والعجز ينخفض إلى 165.4 مليار ريال بنسبة 3.3% من الناتج. هذه الأرقام تأتي من اقتصاد غير نفطي يشكل أكثر من نصف الناتج المحلي، ومن رؤية حققت 93% من مؤشراتها قبل موعدها. جرى توجيه الإنفاق نحو قطاعات تصنع قيمة مركبة: الصناعة، اللوجستيات، السياحة، الطاقة المتجددة، والتقنية. ربع الميزانية يذهب مباشرة إلى التعليم والصحة والإسكان والحماية الاجتماعية.
في كلمة ولي العهد ظهر المعنى الكامل لهذه المرحلة. أكد سموه أن الميزانية تضع مصلحة المواطن في مقدمة الأعمال الحكومية، وأن الإنجازات تراكمت بفضل توجيهات القيادة وجهود أبناء الوطن. وذكر أن الاقتصاد السعودي ينمو بوتيرة متسارعة مع الحفاظ على مستويات مستقرة من الدين العام واحتياطيات معتبرة، وأن سياسة الإنفاق تتسم بالمرونة في مواجهة التحديات العالمية. وأشار إلى أن الإصلاحات التنظيمية والهيكلية ترفع مستوى المعيشة، وتمكّن القطاع الخاص، وتدعم تحقيق مستهدفات رؤية 2030، وأن تمكين الشباب وصل إلى مستوى غير مسبوق مع 2.5 مليون سعودي يعملون في القطاع الخاص. كما وجّه الوزراء بتنفيذ البرامج والمشاريع بكفاءة عالية، وتعميق أثر الميزانية في حياة المواطن.
في هذا السياق يتضح معنى الاقتصاد الذي يتحرك أفقيًا. النشاط المالي لا يسير من أعلى إلى أسفل عبر مسار واحد، بل ينتقل من قطاع إلى آخر داخل شبكة مترابطة. الريال الذي يُصرف في السياحة يمر عبر النقل، ويتصل بالصناعة، ويفتح مسارًا للتقنية، ويرفع حجم الاستثمارات المحلية والدولية. التعليم يرفد سوق العمل، وسوق العمل يوسع الطاقة الإنتاجية، والطاقة الإنتاجية تغذي الصناعة والخدمات، وكل ذلك يشكل دورة واحدة. هذا التحرك يعيد تعريف دور الميزانية كأداة تشغيل، ويحوّل الإنفاق من قيمة مفردة إلى قيمة مُضاعفة داخل أكثر من قطاع.
أثر هذا التحول يصل إلى المواطن بشكل مباشر. ما بين 2016 و2026، عاش المجتمع انتقالًا من اقتصاد يعتمد على مصدر واحد إلى اقتصاد تتشارك فيه قطاعات متعددة في إنتاج النمو. الفرص التي توسعت في سوق العمل، وتحسن جودة الخدمات الأساسية، وارتفاع نوعية المشاريع، كلها نتاج هذا التحرك الأفقي الذي أعلن عنه ولي العهد بصيغة واضحة: الاقتصاد يتقدم بسرعة مع الحفاظ على الاستدامة، والإنفاق موجّه لخلق قيمة تمتد داخل منظومة كاملة.
عشر سنوات صنعت تحولًا يربط بين صدمة 2016، وتحسن 2019، وانضباط 2021، وتسارع 2025، ونضج 2026. هذا المسار يعكس رؤية تمضي نحو بناء اقتصاد واسع القاعدة، وتوسّع دائرة العائد الوطني، وتصنع مستقبلًا يعتمد على قدرة القطاعات على العمل معًا داخل منظومة واحدة.
بهذا الامتداد يتضح المعنى الذي تختتم به المملكة عقدًا كاملًا من التحول: انتقال من عجز يكسر… إلى عجز يبني.






