المقالات

الصعود الاستراتيجي للمملكة: من القوة الناشئة إلى صانعة التوازن العالمي

يشهد العالم في القرن الحادي والعشرين تحولات جذرية تختلف جوهرياً عن سمات القرن العشرين. فبينما تميّز القرن الماضي بالحروب العالمية والصراعات الأيديولوجية وبدايات العولمة، يأتي القرن الحادي والعشرين حاملاً ثورة رقمية غير مسبوقة، وتحديات بيئية كونية، وانزياحاً في موازين القوى نحو نظام دولي متعدد الأقطاب يتسم بالسرعة والتعقيد. في هذا المشهد الجديد، حيث تتصاعد أهمية التعددية وتصبح القضايا العابرة للحدود مثل التغير المناخي والأوبئة في صلب الاهتمام الدولي، تبرز المملكة العربية السعودية كفاعل استراتيجي بارز لا يتكيف مع هذه التحولات فحسب، بل يساهم في تشكيلها.

ففي عصر الرقمنة والعولمة المتسارعة، تتحول المملكة – عبر رؤية 2030 – إلى مركز تقني ومالي وثقافي طموح. وفي مواجهة التحديات المناخية، تبرز كلاعب محوري في أمن الطاقة العالمي، وفي الوقت ذاته، كرائد في استثمارات الطاقة المتجددة والاقتصاد الدائري للكربون. كما أن تراجع الأحادية القطبية وازدياد أهمية التعددية الجيوسياسية وفّرت مساحة مثالية لنهج المملكة البراغماتي في بناء شراكات دولية متعددة ومتوازنة. وقد أظهرت قدرتها على إدارة الأزمات العالمية، كما في جائحة كوفيد-19، والمبادرة بدور فاعل في التعافي الدولي.

في هذا الإطار، لم يعد صعود المملكة العربية السعودية مجرد تطور إقليمي، بل يمثل تحولاً استراتيجياً يُعيد رسم خريطة النفوذ العالمي، كما تجلى عملياً في حفاظها على مركز تنافسي رائد عالمياً لعام 2025. ومن خلال مزيج فريد من القوة الاقتصادية والدبلوماسية النشطة والرؤية المستقبلية، تتحول المملكة من لاعب مؤثر في محيطها الإقليمي إلى فاعل مركزي لا يمكن تجاهله على المسرح العالمي.

أركان الصعود الاستراتيجي:

يعود هذا الصعود الملموس إلى عدة عوامل رئيسة متكاملة:

1. القوة النفطية والطاقة : تمتلك المملكة ثاني أكبر احتياطي مؤكد للنفط في العالم، مما يجعلها المورد الأساسي واللاعب الأهم في استقرار أسواق الطاقة العالمية.
2. الدور المحوري في أوبك+: تُعد المملكة حجر الزاوية في منظمة أوبك وفي تحالف “أوبك+”، حيث تسهم بشكل حاسم في استقرار أسعار النفط من خلال قدرتها على توازن الإنتاج، مما يعزز نفوذها الاقتصادي العالمي.
3. رؤية 2030 التحويلية: تمثل هذه الرؤية الخطة الاستراتيجية الشاملة لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط. وقد بدأت ثمارها تظهر في تقدم المملكة في المؤشرات العالمية للتنافسية والابتكار، وفي التطور الملحوظ للبنية التحتية التقنية والعلمية.
4. دبلوماسية نشطة ووساطات فاعلة: تتبنى المملكة سياسة خارجية ديناميكية، وتسعى بنجاح متزايد إلى لعب دور الوسيط الأمين في قضايا إقليمية ودولية شائكة، مما يعزز مكانتها كطرف محايد وموثوق.
5. تعددية الشراكات والحياد الاستراتيجي: لم تعد السياسة الخارجية السعودية تقوم على تحالف أحادي، بل تتبنى نهجاً براغماتياً يقوم على بناء شراكات استراتيجية متوازنة مع جميع القوى الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي)، مما يعزز استقلالية قرارها ويوسع هامش ممارستها.
6. الاستثمار الجريء في التكنولوجيا والابتكار: توجه المملكة استثمارات ضخمة نحو تطوير التقنيات الناشئة والبحث العلمي، مما يساهم في تعزيز قدراتها الاقتصادية المستقبلية وتحسين جودة الحياة.
7. تطوير القدرات العسكرية والصناعات الدفاعية: تعمل المملكة على تحديث وتطوير قدراتها العسكرية من خلال برامج تسليح متقدمة (كصفقة طائرات F-35) وعبر سياسة طموحة لنقل وتوطين وتطوير التقنيات الدفاعية، مما يعزز أمنها الوطني ومكانتها الاستراتيجية.
8. الاستضافات العالمية والفعاليات الدولية: عززت المملكة حضورها العالمي من خلال استضافة قمم مؤثرة (مثل قمة العشرين)، والمشاركة الفاعلة في مؤتمرات المناخ، واستضافة مراكز علمية دولية، والفوز باستحقاقات مستقبلية كبرى مثل معرض إكسبو 2030 وكأس العالم 2034.
9. الاستثمار في القوة الناعمة والثقافة: تطور المملكة أدوات تأثيرها الثقافي والديني عبر دعم الفعاليات والمتاحف، وصيانة الآثار، وربط المناهج بالقيم الإسلامية، وتطوير القطاع الثقافي ليكون رافداً اقتصادياً وجزءاً من هويتها العالمية.
10. الاستقرار الاقتصادي والأمني الداخلي: يوفر الاستقرار الداخلي والمالي بيئة آمنة جاذبة للاستثمارات الأجنبية، ويدعم تنفيذ المشاريع التنموية الكبرى، ويعزز صورة المملكة كشريك دولي موثوق.

مظاهر الدور الفاعل إقليمياً وعالمياً:

انعكست هذه المقومات على دور المملكة المتعاظم، والذي يتجلى في عدة مجالات حيوية:

1. وساطات ناجحة وتعزيز السلم الدولي: برهنت الرياض على كونها منصة دبلوماسية محايدة وموثوقة، كما في وساطتها لإطلاق أسرى خلال الحرب الروسية-الأوكرانية، واستضافتها لمحادثات رفيعة المستوى بين واشنطن وموسكو، واستقبالها الرئيس الأوكراني زيلينسكي.
2. دعم الاستقرار الإقليمي وإعادة التشكيل الجيوسياسي: تدفع المملكة بحزم من أجل حل القضية الفلسطينية، وتعمل كصوت حكمة لتهدئة التوترات. كما قادت مبادرات وجهوداً عربية موحدة لإعادة إعمار غزة. وحل الأزمة السودانية ويُعد التقارب السعودي-الإيراني (2023) تحولاً جيوسياسياً كبيراً نقل المنطقة نحو نظام إقليمي أكثر تعقيداً وتعددية، أصبحت فيه المملكة مفتاح أي توازن جديد. كما يبرز دورها في دعم استقرار لبنان وتعزيز انتمائه العربي.
3. الدور الاقتصادي الريادي وتشكيل التحالفات: يتجاوز الدور الاقتصادي للمملكة حدودها المحلية ليصبح أداة لتشكيل تحالفات إقليمية جديدة. فـ”المسار السعودي-التركي” القائم على الرؤى التنموية، يُنظر إليه كقوة بناءة يمكن أن تشكل نواة لمشروع تعاوني إقليمي.

وفي الختام، فإن هذا التحول الاستراتيجي التاريخي للمملكة العربية السعودية، من قوة ناشئة إلى صانعة توازن عالمي، لم يكن ليكتمل لولا توفيق الله تعالى أولاً، ثم تلك الرؤية الثاقبة والحكيمة التي قادت مسيرتها، تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله -.

فقد استطاعت هذه القيادة الحكيمة أن تستشرف آفاق المستقبل بكل وضوح، وأن تتعامل مع تحدياته بجرأة استثنائية، مسخّرة كافة أدوات القوة الناعمة والدبلوماسية الذكية، من طاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية الهائلة، ومستفيدة من عمقها العربي والإسلامي ومكانتها المرموقة بين دول العالم. إنها قيادة صنعت من التحديات فرصاً، ومن الطموحات حقائق ملموسة، لتضع المملكة في الصدارة التي تستحقها على خريطة القوى المؤثرة في القرن الحادي والعشرين.
وهي مسيرة تؤكد أن الريادة ليست مصيراً محتوماً، بل هي خيار استراتيجي تصنعه إرادة قيادة وشعب.

أ.د. عصام يحيى الفيلالي

أستاذ سابق – جامعة الملك عبدالعزي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى