لكنَّنا نقرأ وسط ذلك الحشد شيئًا لا نكاد نستبينه، فهو لا يكاد يظهر حتَّى يستخفي، ثمَّ لا يلبث أن يستعلن، كلَّما تقدَّم بنا الزمن شيئًا فشيئًا إلى العصر الحديث.
أحسَّت الدُّول الاستعماريَّة أنَّ شيئًا داخَلَ حُجَّاج الدول التي جثم على صدرها الاستعمار، إنَّ أولئك الحجيج أصبحوا أكثر ثورةً، وأشدَّ مقاومةً، وأيقنوا بعد حينٍ من الدَّهر أنَّ ذلك أثر من آثار الحجّ.
طَوَّقتِ أوربّا الدَّولة العثمانيّة من جميع أطرافها، وجعلتْ تنقضّ على أطرافها، وتحرِّش ما بين القوميَّات التي تتألَّف منها الدولة العثمانيّة، واندلعت حروب أيقظت المسلمين من سباتهم. والذي يعنينا هنا ما له صلة بالحجّ وبمكة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة.
تروي لنا التَّواريخ العامَّة، والمكِّيَّة منها خاصَّةً، أنَّ أنباء تلك الحروب والنَّوازل أخرجت الحجيج عن سكينتهم، وأنَّ العلماء وعامَّة النَّاس أصابتْهم ألوان من الغمّ، فانبرَى الخطباء يبعثون في النّفوس الحميَّة ويستحثُّون المسلمين إلى إجابة داعي الجهاد. نقرأ ذلك في غير كتاب، ويُظهِرنا السَّيِّد أحمد زيني دحلان على أثر تلك الحروب في الحجاز وفي مكَّة المكرَّمة، وليس ذلك فحسْبُ، فإنَّنا نقف في ما كتبه الجبرتيّ في مصر وما كتبه جحَّاف في اليمن كيف اضطربتْ مكَّة المكرَّمة ومدن الحجاز حين انتهى إلى الحجازيّين والحاجّ والمعتمَر نبأ غزوة نابليون لمصر، وأنَّ البلد الحرام رجاله ونساءه والمجاورين فيه، لجأوا إلى البيت العتيق، وعيونهم أدماها البكاء والعويل، وأنَّ النِّساء المخدَّرات في بيوتهنَّ قَدَّمْنَ حليِّهنَّ ونزلْنَ عنها لمقاومة الغزاة الفرنسيس ودفْعهم، ونقرأ عند الجبرتيّ وجحَّاف تَنَادِي الحجازيِّين في الحاضرة والرِّيف والبادية لمقاتلة جيش نابليون في مصر وبلاءَهم في القتال أحسن البلاء.
وكلَّما تقدَّم بنا الزمن وشارَفْنا العصر الحديث وجدْنا أنَّ بيئة الحجّ أصبحت عاملاً من عوامل البعث الإسلاميّ، وإذا ما أَجَلْنا عيوننا في مذكِّرات روَّاد النَّهضة والفصول التي أذاعوها في النَّاس فإنَّنا سنَظهَر على أسماء كوكبة من روَّاد النَّهضة ألفَوا في الحجّ وفي مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة “مؤتمرًا إسلاميًّا”، تقتبس منه الأُمم الإسلاميَّة معنى الجهاد والمقاومة.
يُجَلِّي كتاب محمَّد حسين زيدان “ذكريات العهود الثَّلاثة” -العثمانيّ والهاشميّ والسُّعوديّ- شيئًا من ذلك، حين توافَدَ نفرٌ من رجالات النَّهضة إلى المدينة المنوَّرة في أواخر العصر العثمانيّ، وليس لهم من همٍّ سوى الالتفاف حول فكرة “الجامعة الإسلاميَّة”، وبثّها في المسلمين والدِّعاية لها، نعرف منهم الأمير شكيب أرسلان وعليّ يوسف -صاحب المؤيَّد- وعبد العزيز جاويش ومحمَّد البشير الإبراهيميّ وعبد الحميد بن باديس وحسين أحمد المدنيّ. وفي المدينة المنوَّرة وفي مكَّة المكرَّمة وفي بيئة الحجّ استمدَّ رادة النَّهضة والسَّاسة معاني الجهاد والمقاومة، وأدركت القوَى الاستعماريَّة أيَّ أثر تركه الحجّ في نفوس دعاة الحرٍّيَّة ومناضلة الاستعمار.
كان الحجّ في نظر كوكبةٍ من رجالات النَّهضة أشْبَهَ ما يكون ب”الحبل السُّرِّيّ” الذي يُمِدّ العالَم الإسلاميّ بمعنى استمراره وامتداده، وهذا ما قرأته فيه، كذلك، قوى الاستعمار.
َ[/JUSTIFY]