لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ، مِنْ قَبْلُ، شاعرةً اسْمُها خواطِرُ عبد الله! وأعترِفُ أنَّني لَبِثْتُ زمنًا غيرَ طويلٍ، وأنا لا أعرِفُ لها اسْمًا.ولولا لقاءٌ عارِضٌ في أُمْسِيَّةٍ شِعْرِيَّةٍ في مقهًى أدبيٍّ ما اتَّصَلَتْ أسبابي بهذه الأديبةِ الشَّاعرةِ، بلْ إنَّني، في أوَّلِ عهدي بها، أَحْسَسْتُ خَفَرًا وحياءً يَغْمُرانِها، ولمْ يُتَحْ لي أنْ أتأَمَّلَ تلك الشَّابَّةَ الحديثةَ السِّنِّ، وما كُنْتُ لِأَفْعَلَ، وكُلُّ ما استقرَّ في ذاكرتي، وهي، بفضلِ اللهِ، ليستْ بالمكدودةِ، أنَّ شابَّةً حَيِيَّةً مُهَذَّبةً أَلْقَتْ، عَلَى هامشِ تلك الأُمسيَّةِ، شِعْرًا، وأنَّها، قَبْلَ أنْ أُغادِرَ المقهَى – أوِ القَهْوَةَ كما أُحِبُّ – حَيَّتْنِي، وطَلَبَتْ مِنِّي، وكأنَّها تُقْبِلُ عَلَى أمرٍ عظيمٍ، أنْ تُدَوِّنَ رَقْمَ هاتفي، لِتَعْرِضَ عَلَيَّ – إنْ لَمْ يَكُنْ في ذلك ما يُضَايِقُني! – شيئًا مِنْ شِعْرِها، فلمْ يَكُنْ مِنِّي إلَّا أنْ أَجَبْتُها إلى ما أرادَتْ، ولعلَّها نَسِيَتْ أنْ تُوافِيَني باسْمِها، فاخترْتُ لها اسْمًا يَدُلُّ عَلَى الأُمْسِيَّةِ المُوْمَأِ إليها!
عَلَى أنَّ الشَّاعرةَ الْحَيِيَّةَ المُهَذَّبةَ وافَتْني، بَعْدَ أيَّامٍ بقصيدةٍ أوْ قصيدتينِ، وأَبْدَيْتُ رأيي فيما ظَهَرْتُ عليهِ، دُونَ أنْ أُطْنِبَ أوْ أُفَصِّلَ، وكانتْ تَحِيَّةٌ وكان رَدٌّ، لكنَّني خَجِلْتُ أنْ أسألَها عنِ اسْمِها، وما كانَ يَنْبَغِي لي أنْ أَخْجَلَ، لولا أنَّني لمْ أُرِدْ أنْ أَخْدِشَ براءَتَها، ولولا أنَّني لمْ أُرِدْ أنْ ترى في سؤالي ادِّعاءً بالجهلِ لمقامِها ومكانتِها، أوْ إغفالًا لشاعرةٍ تسألُ “ناقِدًا أدبيًّا” – وأنا ذلك النَّاقدُ! – رأيَهُ في شِعْرِها، وأنَّى لي يا صغيرتي أنْ أُغْفِلَ شِعْرَكِ ما دُمْتِ سألْتِني الرَّأيَ، وكيفَ لي أنْ أَصُدَّ عنكِ؟ لكنَّني لَمَحْتُ في رسالتِها اسْمَ “خواطِرَ”! فقُلْتُ: لا بأْسَ! فلْيَكُنْ هذا الاسْمُ الأدبيُّ أو الفنِّيُّ اسْمًا لشاعرتي الصَّغيرةِ، حتَّى أهتدِيَ، بَعْدَ حِينٍ، إلى اسْمِها المُدَوَّنِ في أوراقِها الرَّسميَّةِ، ولَمْ يُبْطِئْ ذلك اليومُ؛ فإذا بما خُيِّلَ إليَّ اسْمًا أدبيًّا أدنَى إلى عَصْرِ الشَّبابِ = هو اسْمُها الذي اختارَهُ لها والِدَاها، وتفصيلُ ذلك في مُقَدِّمتِها اللَّطيفةِ الَّتي لا أَشُكُّ أنَّهُ لولا غرابةُ اسْمِها، وما فيهِ مِنِ التباسٍ = لَمَا تَكَلَّفَتْ شاعرةٌ جديدةٌ أنْ تَضَعَ بينها وبينَ قصائدِها مُقَدِّمةً!
ولَمْ تَكَدْ رسائلُ خواطِرَ تنقطِعُ حتَّى تُسْتَأَنَفَ، وما مِنْ رسالةٍ إلَّا وانْطَوَتْ عَلَى سُؤالٍ طالما قالَهُ مِنْ قَبْلُ شاعرٌ وأديبٌلناقِدٍ: ما رأيُكَ في قصيدتي يا أستاذُ! وهو سؤالٌ مُعْضِلٌ، مَهْما بدا ساذجًا بسيطًا، وهو، كذلك، سؤالٌ يُوَرِّطُ مَنْ يُلْقَى عليهِ!
أنتِ تطلبينَ أَشَقَّ ما سألَني إيَّاهُ أديبٌ وكاتِبٌ ومُؤَلِّفٌ يا خواطِرُ! تطلبينَ الرَّأْيَ! وكأنَّهُ كان لِزَامًا عَلَيَّ أنا، دُونَ سِوَايَ، أنْ أَصْدَعَ برأْيٍ، ثُمَّ لا أَعْرِفُ أسيكونُ ما سأقولُهُ خفيفًا عَلَى قلبِكِ الغَضِّ، وتجرِبَتِكِ الَّتي هي كُلُّ شيءٍ عِنْدَكِ! تسألينَني الرَّأيَ! وما كَرِهَ الشُّعراءُ النَّقْدَ – وكانُوا مِنْ قَبْلُ يطلبونَهُ – إلَّا لمُخالَفةِ رأْيِ النَّاقِدِ ما يَرْجُوهُ الشَّاعرُ، متى كانَ الخِلافُ هو المُفْتَرَقَ بين قَلْبِ الشَّاعرِ وعَقْلِ النَّاقدِ! وأدركْتُ شيئًا مِنْ ذلك في خواطِرَ! فإذا الشَّاعرةُ التي تسألُ الرَّأْيَ، في رسالتِها، تَدْفَعُ عنْ قصيدةٍ لها رأْيًا فطيرًا قالَهُ النَّاقدُ – ومِنْ سُوءِ الحظِّ كُنْتُ أنا ذلك النَّاقدَ! – لكنَّني أَكْبَرْتُ الشَّاعرةَ، وأعجَبَني استبسالُها في الدِّفاعِ عنْ شِعْرِها، في وَجْهِ ناقدٍ سترَى فيهِ، حِينَ تَرْقَى ويَرْقَى شِعْرُها “شاعرًا فاشِلًا!” يَحْنَقُ عَلَى الشُّعراءِ المُبْدِعِينَ!
هلْ ستقولُ خواطِرُ ذلك عنِّي ذاتَ يومٍ؟
اسألُوها!
لكنَّ خَوَاطِرَ لَمْ تستطِعْ عَلَى شِعْرِها صَبْرًا، فإذا بِها تُقْبِلُ عَلَى نَشْرِ طائفةٍ مِنْ قصائدِها في ديوانٍ دَعَتْهُ (سِوارَ قصيدةٍ)، وحِينَ أَعْلَمَتْني، مِنْ قَبْلُ، عنْ نِيَّتِها، شَجَّعْتُها، ما دُمْتُ ناقِدَها الأمينَ! فإذا رأْيْتُمْ في شِعْرِها ما يُزَيِّنُهُ في أَعْيُنِكُمْ، فذلك شيءٌ مِنْ أَثَرِ الرَّأْيِ والمَشُورةِ، وإنْ كانَتِ الأُخرَى – ولا أَظُنُّكُمْ سترَوْنَها! – فصُبُّوا سِيَاطَ غَضَبِكُمْ عَلَى النَّاقدِ، فَهُوَ، وَحْدَهُ، الَّذي يَحْتَمِلُ التَّبِعَةَ، واترُكُوا الشَّاعرةَ تُغَنِّي لِسِوَارِها وقصيدتِها!
عَلَى أنَّني سأقولُ لخواطِرَ، وسأقولُ لَكُمْ شيئًا:
إنَّني أُعْجِبْتُ بديوانها الأنيقِ هذا لغيرِ سَبَبٍ؛ أعجبَني فيهِ ما يُوْشِكُ أن يجعلَ الكلامَ النَّثريَّ الَّذي يَشِيعُ في خِطَابِ المُحِبِّينَ = شِعْرًا، وما كُنْتُ، وأنا أَجُولُ في قصائدِها، لأطْلُبَ صُورةً نادرةً، ولا منزعًا فلسفيًّا، وما كُنْتُ لأُلْقِيَ بنَفْسي في مُعْتَرَكٍ يُكَلِّفُني حَلَّ غوامِضِهِ. لا! لمْ أَكُنْ لأنتظِرَ شيئًا مِنْ ذلك، والحَقُّ أنَّني بِتُّ لا أُسِيغُ، في كثيرٍ مِنْ شِعْرِ هذا الزَّمانِ، تَكَلُّفًا يَحْمِلُ الشَّاعرَ – وهو في الغالِبِ حديثُ السِّنِّ – عَلَى أن يَغْمُضَ، وعَلَى أن يُعاظِلَ في تراكيبِهِ، فإذا ضَعْفُ الثَّقافةِ، في الأُولَى، مَنقبةٌ، وإذا الْجَهْلُ باللُّغةِ، في الثَّانيةِ، مَزِيَّةٌ، وإذا بنا – نحنُ القُرَّاءَ – نُجْبَرُ عَلَى قراءةِ هذا الضَّرْبِ مِنَ الشِّعْرِ، وإذا بالنُّقَّادِ – وأنا أدعو نَفْسي قارِئًا لا ناقدًا! – مَرْجُوٌّ مِنْهُمْ أن يرفعوا هذا الشِّعْرَ الكَزَّ الثَّقيلَ إلى مَرْتبةٍ عُلْيَا في الشِّعْريَّةِ والحداثةِ!
وكان مِنْ سالِفِ ما مَرَّ بي أنْ أَذُوقَ الشِّعْرَ مُبَرَّأً مِنْ قواعدِ النُّقَّادِ، وفلسفاتِ المُنَظِّرِينَ، فإذا قرأْتُ شِعْرًا، قُلْتُ: هذا شِعْرٌ، ولا يعنيني أنْ أستشيرَ ما لُقِّنْتُهُ في الجامعةِ مِنْ قواعدَ بارِدةٍ فاترةٍ، ما دامَتِ الخِبْرةُ والثَّقافةُ وطُولُ التَّجرِبةِ هُنَّ سبيلي إلى هذا الشِّعْرِ الجميلِ.
ألا يكفي أنْ أقرأَ قولَ خواطِرَ لأُرَدِّدَ: الله! ما أَجْمَلَ هذا الشِّعْرَ:
اللَّيْلُ يا صغيرتي
حِكَايَةٌ مُعَقَّدَهْ
أَوْرَاقُها قَدِيمةٌ..
لَكِنَّهَا مَلِيئَةٌ بِالدِّفْءِ
كَالْمُعَانَقَهْ
كَقَارِئٍ مُتَيَّمٍ
يَجُوبُ في شَوَارِعِ المَدِينةِ
المُعَتَّقَهْ
لِيَمْتَطِي رِوايةً مَهْجُورةً
وَحِكْمةً مَنقُوشةً
أَسْرَارُها كَظِيمَهْ
كعابِرٍ..
يُسَائِلُ الوَرَّاقَ
عَنْ حديقةٍ مُعَلَّقَهْ
اللَّيْلُ يا صَغِيرَتِي
دَهْرٌ يَشِيخُ في عَقَارِبِ الزَّمَنْ
كَسَاعَةٍ عَتِيقَةٍ
نَدِيمةِ الشَّجَنْ
تَدُقُّ كُلَّ بُرْهَةٍ
لِيَسْتَعِيدَ العِشْقُ في ظَلَامِها
القصائِدَ المُؤَرِّقَهْ
فَيَنْطَوِي فيها السَّهَرْ
ويَنْظُرَ العُشَّاقُ
مِنْ نَوَافِذٍ مُطَوَّقَهْ
لِيَرْقُبُوا القَمَرْ
اللَّيْلُ يا أَميرتِي..
قلَادَةٌ مِنَ الحَنِينِ والشَّذَرْ
تُخَبِّئُ الأسرارَ في خُيُوطِها
سِحْرًا
لِيَقْرَأُوا فيها الْخَبَرْ
اللَّيْلُ يا صغيرتي…
فِنْجانُنا المَلِيءُ بالغَرَابَهْ
وأَبْجَدِيَاتِ الهَوَى
في صفحةِ الكِتابَهْ
اللَّيْلُ يا صغيرتي
حِكايَةٌ مٌّثِيرةٌ…
كَوَاحَةٍ في غابَهْ
فالشَّمْسُ لا تأتي بِسِحْرٍ هكذا
إلَّا وقدْ تَضَرَّعَتْ
في ساعةِ الإجابهْ
وأنا يَلَذُّ لي خِتامُ القصيدةِ:
اللَّيْلُ يا صغيرتي
حِكايَةٌ مٌّثِيرةٌ…
كَوَاحَةٍ في غابَهْ
فالشَّمْسُ لا تأتي بِسِحْرٍ هكذا
إلَّا وقدْ تَضَرَّعَتْ
في ساعةِ الإجابهْ
بَلْ إنِّي أراهُ بيتَ القصيدِ، ولَسْتُ أُسْرِفُ حِينَ أقولُ: وصُورةُ الشَّمْسِ التي تَضَرَّعَتْ ساعةَ الإجابةِ = صُورةٌ لا يستطيعُها إلَّا الشَّاعرُ الشَّاعِرُ! فحَيَّاكِ اللهُ يا خواطِرُ! وحَسْبُ القصيدةِ الَّتي تَبْدأُ، مَقْطَعًا بعدَ مَقْطَعٍ، بِعِبارةِ “اللَّيْلُ يا صغيرتي”! = أنِ احتفلَتْ بأشيائِها الصَّغيرةِ.
أمَّا السَّبَبُ الَّثَّاني لإعجابي هُوَ أنَّنا بإزاءِ شاعرةٍ تَفْتَنُّ في مُلاءَمةِ الشِّعْرِ للشَّجَرةِ الَّتي يرتفعُ إليها، نلقاها، مَرَّاتٍ، أَدْنَى إلى مُعْجَمٍ رُومنطيقيٍّ طالما أَلْفَيْناهُ في أشعارِ صلاح عبد الصَّبُور الأُولَى، فإذا هي تستعيرُ مُفرداتٍ مِنَ الشَّارِعِ،فتستوي بين يديها شِعْرًا يُقْرَأُ، ثُمَّ نرى الشَّاعرةَ الرُّومنطيقيَّةَ تُلْجِئُها القصيدةُ البيتيَّةُ “العَمُوديَّةُ” إلى مُعْجَمٍ عليهِ سَمْتٌ أعرابيٌّ، فتستقِيدُ لدِيباجةٍ يَتَعَشَّقُها هُوَاةُ الشِّعْرِ القديمِ،وتَتَعَشَّقُها هِيَ، وما قصيدتُها “هَذَيْتُ شِعْرًا” إلَّا تَصويرٌ لتلك الدِّيباجةِ الأعرابيَّةِ الحبيبةِ، وأَقْرَبُ الظَّنِّ أنَّ القصيدةَ مِنْ أَوَّلِ ما نَظَمَتْهُ الشَّاعرةُ، يَدُلُّنا عَلَى ذلك بَحْرُ “البسيطِ” بِمَهابتِهِ وجَلالِهِ، والقافيةُ الرَّائيَّةُ، وموضوعُ القصيدةِ الَّذي يُصَوِّرُ هُيَامَ الشَّاعرةِ بمعشُوقتِها “الفُصْحَى”، فإذا هذا العِشْقُ يُصْبِحُ هَذَيَانًا، وإذا بالعاشقةِ الصَّغيرةِ تُصْبِحُ شاعرةً:
أُسَائِلُ العُمْرَ عَنْ قَلْبِي وَعَنْ قَدَرِي:
هَلْ في سِنِينِي سَتَبْدُو أَوْجُهُ الْقَمَرِ؟!
كَمْ عِشْتُ أَبْحَثُ في أَرْجاءِ مَكْتَبَتِي
عَنْ عاشِقٍ يَنْتَشِي حُبًّا مِنَ الوَتَرِ
عَنْ كاتِبٍ يَقْتَنِي حِبْرًا بِمَغْزَلَةٍ
يَحِيكُ دَمْعَ الْهَوَى ثَوْبًا مِنَ القَدَرِ
عَمَّنْ أَقُولُ لَهُ: إِنِّي بِصُحْبَتِهِ
هَذَيْتُ شِعْرًا فَيَسْقِينِي مِنَ الأَثَرِ
ومَنْ أُناجِيهِ بالفُصْحَى فَيٌلْهِمُنِي
ويَنْتَقِي أَجْمَلَ الأبياتِ للسَّمَرِ
نادَيْتُ بالعِشْقِ حَتَّى جاءَ مَوْرِدُهُ
مِنْ حَيْثُ تاهَتْ بِهِ آمالُ مُنْدَثِرِ
ما إنْ رَمَيْتُ سِهَامَ الحُبِّ أُغْنِيَةً
حتَّى تَمَايَلَ كالدُّرَّاقِ في الشَّجَرِ

والحَقُّ أنَّ خواطِرَ أَعْرَضَتْ عنْ أَثَرَةِ الشُّعراءِ ومُبالَغَتِهِمْ في قَبُولِ كُلِّ وارِدٍ مِنَ الشِّعْرِ، وانتزَعَتْ مِنْ عِباراتِ اللُّغةِ “هَذَيْتُ شِعْرًا”، واتَّخَذَتْها عُنْوانًا؛ فالدِّيباجةُ العربيَّةُ العَرْباءُ، والبَحْرُ المَهِيبُ، وما تَخَلَّلَ القصيدةَ مِنْ جَلَالٍ = كُلُّ أولئكَ لمْ يَحْمِلْها عَلَى غَيْرِ هذا العُنْوانِ!
لكنْ، مَهْلًا! فلنْ أُصَدِّقَ – يا خواطِرُ – هذا الخاطِرَ الَّذي كِدْتُّ أستسلِمُ لهُ، أوَّلَ مَرَّةٍ! لا! فما يُدْرِينا أنَّ خواطِرَ أرادتْ أنْ تَقُولَ لنا: إنْ كانتْ هذه القصيدةُ “هَذَيَانًا”، وهي هي جَمَالًا وجَلالًا، فكيفَ لَوْ قَرَأْتُمْ قصائدي الَّتي لا أَثَرَ فيها للهذيانِ؟!
رُبَّما كانَ ذلك!
لَكِنَّني لنْ أستطيعَ أنْ أَصُدَّ عنْ كلمةٍ قالَها الشَّاعِرُ جرير بن عطيَّةَ في الشَّاعرِ الحجازيِّ الغَزِلِ عُمَرَ بنِ أبي ربيعةَ – سَلَفِ خواطِر؛ فهي حِجَازِيَّةٌ مَكِّيَّةٌ – تُصَوِّرُ بعضَ ما أُرِيدُهُ!
أَلَمْ يَقُلْ جريرٌ في عُمَرَ – وهو عارِفٌ لِشِعْرِهِ -: “شِعْرٌ حِجَازِيٌّ لَوْ أَنْجَدَ في تَمُّوز لَوَجَدَ البَرْدَ فيهِ”! فلمَّا عَدَا عُمَرُ ذلك العَهْدَ مِنَ الشِّعْرِ، قالَ جريرٌ كَلِمَتَهُ المُعْجِبَةَ الذَّكِيَّةَ: “ما زالَ هذا القُرَشِيُّ يَهْذِي حتَّى قالَ الشِّعْرَ”!
ودِيوانُ (سِوَار قصيدة) فيهِ ذلك الشِّعْرُ الَّذي لا يَعْنِيهِ إلا أن يُعَبِّرَ أكثرَ مِمَّا يُصَوِّرُ، وفيهِ “الهَذَيانُ” الَّذي صارَ “شِعْرًا”، وفيهِ – يا خواطِرُ – شِعْرًا كانَ واجبًا عَلَيْكِ أنْ تَطْوِيهِ وتُعْرِضِي عنهُ، مَهْما خُيِّلَ إليكِ أنَّهُ شِعْرٌ، واعلمي – أيَّتُها الشَّاعرةُ – أنَّ ما كانَ “قَرْزَمةً” وتَعَلُّمًا = أَحَقُّ بأن يُطْوَى، ما دامَتْ رَبَّةُ الشِّعْرِنَفَثَتْ فيكِ الْجَمِيلَ مِنْهُ والْجليلَ، ولوْ كانَ لي أنْ أُنَبِّهَكِ لَرَجَوْتُكِ أنْ تُدارِي ما أَسْمَيْتِهِ “مُجارَاةً”، وكانَ عليكِ أنْ لا تُجارِي إلَّا ما كانَ شِعْرًا، وتُعْرِضِي عَمَّا سِوَاهُ مِنَ اللَّغْوِ! غَفَرَ اللهُ لي ولكِ يا خواطِرُ!
عَلَى أنَّ الإنصافَ يَقْتَضِيني أنْ أقولَ: إنَّنا لا نلقَى في شِعرِ خواطِرَ تلك الأوصابَ التي ابتُلِيَ بها شِعرُ المرأةِ، بلْ إنَّهُ نَجَا مِنْ أدواءِ الرُّومنطيقيِّينَ لَمَّا تَخَلَّوْا عمَّا في الرُّومنطيقيَّةِ مِنْ رُوحٍ ثائرٍ، فإذا شِعْرُ أتباعِهِمْ يتلخَّصُ الحُبُّ والوجدانُ فيهِ، في شيئينِ: مُيُوعةٍ لفظيَّةٍ، وطرطشةٍ عاطفيَّةٍ.
نَجَا شِعرُ خواطِرَ، في عامَّتِهِ، مِنْ ذينِكَ المَرَضَيْنِ اللذَيْنِ كانا مِنْ أسبابِ اتِّقاءِ الشُّعراءِ والنُّقَّادِ لذُيُولِ الرُّومنطيقيَّةِ. نَعَمْ هي شاعرةُ قصيدةِ الحُبِّ، لكنَّها ليستْ تُشْبِهُ شواعِرَ أُخرياتٍ، الشِّعرُ عندَهُنَّ لَوْنٌ مكرورٌ مِنَ المُيُوعةِ والطَّرطشةِ والآهاتِ والتَّأوُّهاتِ. إنَّها اتَّقَتْ هذا اللَّونَ مِنَ الشِّعرِ الذي حَبَسَتِ المرأةُ الشَّاعرةُ نفسَها فيهِ، بإرادتِها واختيارِها، أوْ لأنَّها – أي المرأةَ الشَّاعرةَ – حَقَّقَتْ ما يرجُوهُ القارئُ “الرَّجُلُ”، والنَّاقدُ “الرَّجُلُ”!
اتَّقَتْ خواطِرُ هذا اللَّوْنَ، دُونَ أنْ تَنْفِيَ عنْ نفسِها صِفةَ الحُبِّ، فالحُبُّ ليس جُرْمًا، وإنْ أَجْرَمَ لفيفٌ مِنَ الشُّعراءِ لَمَّا صَيَّرُوهُ أَشْبَهَ بنداءاتِ الرَّغبةِ تلك التي يتمرَّنُ عليها الفِتيانُ والفتياتُ الذينَ عَدَوْا طَوْرَ الصِّبا إلى أوَّلِ الشَّبابِ!
ويُحْسَبُ لشاعرتِنا أنَّها آثَرَتِ المَرْكَبَ الصَّعْبَ، واجتنَبَتْ مِنَ الطُّرُقِ ما كانَ ذَلُولًا مُوَطَّأً؛ فإذا هي تُجَرِّبُ مِنَ الشِّعرِ لونينِ؛ القصيدةَ البيتيَّةَ “العَمُوديَّةَ“، وقصيدةَ التَّفعيلةِ، وثَقَّفَتْ شِعرَها متى ما أردْنا بالتَّثقيفِ دلالتَهُ اللُّغويَّةَ التي عَنَاها الشَّاعرُ الذي باتَ بأبوابِ القوافي = وهي مُثَقَّفةٌ متى أردْنا المعنى الاصطلاحيَّ الذي آلَتْ إليهِ كلمةُ “ثقافةٍ” في العصرِ الحاضِرِ.
صحيحٌ أنَّهُ يَلَذُّ لي أنْ أقرأَ في شِعرِها المرأةَ العاشقةَ أوِ المعشوقةَ، لكنَّهُ أَطْرَبَني – والشِّعرُ ضرْبٌ مِنَ الطَّرَبِ – ما انطوَتْ عليهِ غيرُ قصيدةٍ في ديوانِها مِنْ خصائصِ ما أعنيهِ بالقصيدةِ المُثَقَّفةِ؛ تلك التي أدَّتْها شاعرةٌ مُثَقَّفةٌ إلى قارئٍ تُوْجِبُ عليهِ القصيدةُ أن يَكُونَ، كذلكَ، قارئًا مثقَّفًا، وعَسَاها، متَى ما اشتدَّ عُودُها وصَلُبَ، أنْ لا تستجْلِبَ حوادِثَ التَّاريخِ ورُمُوزَهُ، دُونَ مُسَوِّغٍ يُوْجِبُهُ الشِّعْرُ، فتُضْطَرَّ خواطِرُ أنْ تُفَسِّرَ، في غيرِ صفحةٍ مِنْ صَفَحاتِ دِيوانِها الصَّغيرِ = رَمْزًا، أوْ حَدَثًا، وكأنَّها أَحَسَّتْ أنَّها كَلَّفَتِ الشِّعْرَ فوقَ ما يُطِيقُ، وعَسَاها، كذلك، أنْ تُدِيمَ النَّظَرَ في أنحاءِ القصيدِ، فلا تحِيفَ عَلَى تراكيبِ اللُّغةِ، ولا تَجُورَ عَلَى النَّحْوِ!
اِسْلَمِي يا خواطِرُ وطَوِّفِي في سماءِ الشِّعْرِ!