خُيِّلَ إِلَيَّ وأنا أقرأُ ديوانَ حتَّى مَطْلَعِ الشِّعْرِ أنَّ سارة بشَّار الزَّين تَحْمِلُ نَفْسَها عَلَى نَظْمِ الشِّعْرِ،فإذا كَبَحْتُ هذا الخَيَالَ الشِّرِّيرَ وخَفَّفْتُ ما فيهِ مِنْ قساوةٍ = مِلْتُ إلى أنَّها أَشْقَتْ نَفْسَها لَمَّاتَوَهَّمَتْ أنَّ الشِّعْرَ كُلَّهُ، مِنْ مُفْتَتَحِهِ إلى مُخْتَتَمِهِ، مَجازٌ يَتْبَعُهُ مَجازٌ، حتَّى إذا نَظَرْتُ في القصيدةِكُلِّها، ثُمَّ أنشأْتُ أتأَمَّلُها بيتًا بيتًا، راعَني أنَّ سارةَ تَجْمَعُ أشتاتَ الكلماتِ، كيفما اتَّفَقَ لها، دُونَ أنيَصِلَ بينَ الكلمةِ وأُخْتِها رابطٌ مِّنْ مَعْنًى يُسِيغُهُ الشِّعْرُ، مَهْما شَطَّ في الْخَيَالِ، أوِ اكتنَفَهُ الغُمُوضُ،وخُيِّلَ إليَّ، مِرَارًا، أنَّها استكانَتْ إلى ما في قصائِدِها مِنْ صخَبٍ مُوسيقيٍّ، يُوْشِكُ أن يُصْبِحَضجيجًا، فاستجابَتْ لهذا الصَّخَبِ وذلكَ الضَّجيجِ، واستسلمَتْ لِمَكْرِ الوَزْنِ، فكانَ ما كانَ مِنْأمرِ شِعْرِها الَّذي امتدَّ عَلَى صفحاتِ الدِّيوانِ كُلِّهِ، قَرْقَعَةَ ألفاظٍ، وعِرَاكَ عِبَاراتٍ لا أعرِفُ كيفَاتَّفَقَ لَهُنَّ أن يَجْتَمِعْنَ في مِهَادٍ واحدٍ.
وأنا لا أَمْنَعُ نَفْسي مِنَ القولِ: إنَّ سارة الزَّين تَشُقُّ عَلَى نَفْسِها لِتَقُولَ الشِّعْرَ، أَلَا يَكْفِي أنْ تَعْرِفَأوزانَهُ وأعاريضَهُ لِتَهْجُمَ عليهِ؟ ثُمَّ إنَّ اللُّغَةَ طَيِّعَةٌ بينَ يَدَيْها، تُقَلِّبُها كما تشاءُ، ذاتَ اليمينِ وذاتَالشِّمَالِ. إذنْ ما عَلَيْها إلَّا أنْ تَتَّجِهَ إلى الشِّعْرِ، حتَّى إذا كَتَبَتْ كأنَّما أَعْجَزَها أنْ تَصْدُرَ عنْ ذاتِنَفْسِها، وتَحامَتْها القصيدةُ، مَهْما حاوَلَتْ، فلا يبقَى لديها إلَّا أنْ تُكَيِّفَ بُحُورَ الشِّعْرِ، وهي عليهاهَيِّنةٌ، وتُكْرِهُ كلماتِ اللُّغةِ وعِبَاراتِها عَلَى ما تُرِيدُهُ، حتَّى إذا صارَ لها، مِنْ إكراهِها هذا قصيدةٌ،خُيِّلَ إلى مُتَلَقِّي الشِّعْرِ – كما خُيِّلَ إِلَيَّ – أنَّهُ إنَّما يقرأُ – أوْ يرفعُ أُذُنَهُ – إلى لَوْنٍ مِنَ الشِّعْرِ جديدٍ. أَغْلَبُ الظَّنِّ أنَّ شيئًا مِّنْ ذلكَ سيَكُونُ، لكنَّهُ ما إن يَمْضِي في شِعْرِها – وهذا ما أدركْتُهُ – عَرَفَ أنَّالسِّرَّ في صَنْعَتِها لا يَعْدُو ما ذَكَرْتُ، مِنْ قَبْلُ، واستبانَ لهُ، كما استبانَ لي، أنَّ الشَّاعرةَ خَدَعَتْنَفْسَها بهذا اللَّعِبِ اللُّغَويِّ، حتَّى لَتَبْلُغُ مرتبةً مِنَ الهَذَيَانِ الَّذي يأْباهُ نِظَامُ اللُّغَةِ ومَنْطِقُ الشِّعْرِ،ما دامَ الشِّعْرُ ينثالُ بَيْنَ يَدَيْها كيفما اتَّفَقَ لها، نَشْرَعُ في القصيدةِ ونُتِمُّها دُونَ أنْ نُّصِيبَ فيهامَعْنًى مُمْكِنًا، أوْ تَجْرِبَةً، أوْ ما دُونَهما مِمَّا يُرِيدُهُ مُحِبُّو الشِّعْرِ، وحتَّى كأنَّ أبياتَ القصيدةِ جُزُرٌمُبَعْثَرَةٌ لا جامِعَ بينَها، مَهْما تَرَامَتْ وتَرَاحَبَتْ
يَا صَحْوَةَ الْحَرْفِ مِنْ جُوعِ النِّهَايَاتِ
الْآنَ أُبْصِرُ فِي قَمْحِي نُبُوءَاتِي
تَهْذِي الْمَسَافَةُ فِي عَيْنِي فَأَسْأَلُهَا
مَنْ ذَا يُرِيقُ عَلَى عَيْنِي مَسَافَاتِي؟
مَبْلُولَةٌ بِالشَّتَاتِ الْمُرِّ أَسْئِلَتِي
وَغَيْمَتِي ابْتَلَعَتْ كُلَّ احْتِمَالَاتِي
أَرْضِي.. وَقِيلَ، بُعَيْدَ الصَّمْتِ، خَائِفَةٌ
خَوْفَ السُّكَارَى.. تَرَى هَوْلَ الْقِيَامَاتِ
صَوْتِي.. وَيُشْبِهُ فِي التَّرْمِيزِ أُغْنِيَةً
شَطَّتْ عَنِ اللَّحْنِ فِي إِيقَاعِهَا الذَّاتِي
دَمْعِي صُنُوفُ بِحَارٍ مَّا لَهَا أَمَدٌ
بِالْمَوْجِ تَرْفُلُ فِي عَيْنِ الْمُحِيطَاتِ
وَطِفْلُ شِعْرِيَ مَنْبُوذٌ بِلَفَّتِهِ
لَا يَمَّ يَحْمِلُ أَشْبَاهَ الْوِلَادَاتِ
ونَمْضِي في القصيدةِ حتَّى خِتامِها، ثُمَّ نَشْرَعُ في ثانيةٍ وثالثةٍ… حتَّى نُتِمَّ الدِّيوانَ، عَلَى هذا النَّحْوِمِنَ الكلماتِ اللَّاتي لا أَعْرِفُ كيفَ اتَّفَقَ لَهُنَّ في ديوانِ سارة الزَّيْنِ نِظَامٌ؟ وأَغْلَبُ الظَّنِّ أنَّهُيُدَاخِلُها شُعُورٌ يَبْلُغُ حَدَّ الوَهْمِ بأنَّ ما تُكْرِهُ عليهِ قصائِدَها ليسَ إلَّا مُكابَدَةَ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ“الحداثةِ”، طُعِّمَتْ بِهِ القصيدةُ البيتيَّةُ “الَعَمُوديَّةُ”، فلا حداثةً اكتسبْنا، ولا مَعْنًى مِنْ مَعانيالشِّعْرِ، أيًّا كانَ نَهْجُهُ، أُدِّيَ إلينا.
وأنا لا أَتَوَرَّعَ عنْ أنْ أُسَمِّيَ إكراهَ سارة الزَّيْنِ نَفْسَها عَلَى قَوْلِ الشِّعْرِ “طَرْطَشَةً لُغَوِيَّةً” فاضَتْ عنْحَدِّها المقبُولِ – إنْ كانَ لها حَدٌّ مَّقبُولٌ – فإذا القصيدةُ الواحدةُ، وإذا الدِّيوانُ بأَجْمَعِهِ“طَرْطَشَةٌ لُغَوِيَّةٌ”، تُوْهِمُ بالشِّعْرِ، حتَّى إذا استأْنَيْنا في تَأَمُّلِها انتهينا إلى ما انتهَيْتُ إليهِ
وَأَنَا كَسَيِّدَةِ الفُصُولِ
أُقَلِّمُ الْأَشْعَارَ فِي قَصَبِ الْمِزَاجِ الْمَوْسِمِيِّ
وَأَحْتَفِي بِالنَّرْدِ يَقْرَعُ زَيْفَ أَوْرَاقِ الْكِنَايَةِ
حِينَ تَسْقُطُ فَوْقَ عُشْبِ الوَقْتِ
ثَكْلَى
ويَغْلِبُها ما في القصيدةِ مِنْ صَخَبِ الموسيقا وضَجِيجِها، فتُنادِي مَدِينةَ الرِّياضِ، وتَحْمِلُهاالقصيدةُ اللَّامِيَّةُ أنْ تَسُدَّ القافيةَ بما يَخْطُرُ في الذِّهْنِ، وإنْ أَوْحَى بالغرابةِ والْخِلابةِ
أَهْفُو إِلَيْكِ وَمَا فِي الْوَصْلِ غَيْرُ فَمِي
فَجَدِّدِي الْوَصْلَ شِعْرًا يَا ابْنَةَ الْخَالِ
ولولا القافيةُ، ولولا “الطَّرْطَشَةُ اللُّغَوِيَّةُ” ما كانَتْ “يا ابْنَةَ الْخَالِ”!
وتُوَرِّطُها قافيةُ الباءِ في قصيدةٍ أُخْرَى، فتقولُ:
قَدَرٌ أَنْتَ عُلِّقَ الْيَوْمَ فِينَا
وَشَتَاتٌ مُؤَجَّلُ الْإِعْرَابِ
ولولا القافيةُ، ولولا “الطَّرْطَشَةُ اللُّغَوِيَّةُ” ما أَقْحَمَتِ الشَّاعرةُ “الإعرابَ المُؤَجَّلَ” في قصيدتِها! وما “رَفَسَتِ الْمَجَازَ”، ولَمَّا نَشْرَعْ، بَعْدُ، في الدِّيوانِ
تَعَالَيْ مَعِي
سَوْفَ أَرْفِسُ كُلَّ الْمَجَازَاتِ كَرْمَى لِخَوْفِكِ..
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ،،
فَلَمْ يَكُنْ ما سِيقَ، أعلاهُ، إلَّا نَزْرًا يسيرًا مِمَّا أَظُنُّهُ إكراهَ سارة الزَّيْنِ نَفْسَها عَلَى قَوْلِ الشِّعْر، وخَنْقِالقصيدةِ والقارِئِ مَعًا.