ورْطةُ الغِواية بين الثلاثة !

أوقعتْني صُدفة المعرفة في غواية الشعر واتباع الغاوين في سنةٍ واحدة جمعتني بشعراء ثلاث ؛ طرقَتْ أسافينُ الثقافة أوتادَها بيننا في أرض الفن وحب الجمال ، وكلهم في هذا العام – وتحديداً – بمعرض جدة الدولي للكتاب 2015م أكرَمُوني بدَواوِينهم : “صباحٌ مرمّمٌ بالنجوم” للشاعر المكي عبدالله بيلا ، “في قلب حمامةٍ سوداء” للأستاذ ياسر العتيبي ، “وحين يجمعنا القدر” للدكتور ماجد عبدالله .

وللأمانة كنتُ ألمحُ في وُجوه الشعراء ودواوينهم بسوق الكتب أسىً وغُربةً باتتْ تقِضّ مضاجعهم وتزيد في نفس الوقت من إلهامهم الشعري نحو المزيد من المعاناة المترجَمَة عبر القصيد ؛ لأنّ زمنَ  الالتفات للشعر قد ولّى في عصر تربّعِ القص والرواية ! كما يشهد بذلك كبارُ الناشرين .

وليس المجال هنا للنقد والتحليل بقدر ما هو تعريف واستعراض لتلك الدواوين ، واستصحابٌ لمواطن الجمال والإبداع فيها على قَدَر .

فمعَ عبدالله بيلا حين يُشرقُ صباحٌ مرمّمٌ بالنجوم ؛ لا تملك إلا أنْ تفتحَ عينيكَ أمام شاعرٍ فحْلٍ يجلسُ بين شعراء عالمِهِ على مَرْثيّةِ أقمارهِ السبعة ، يعرجُ إليه الدمعُ ؛ فتبرقُ في عينيه  نجمةٌ عمياء كشمس تليق بأفريقيا غير آبهَةٍ بمهرجان الموت ؛ لأن تفاؤليته تجعلُ قصيدَهُ في تمام الوعي !

خليطٌ مسبُوكٌ بماءِ الإبْداع يتحدّرُ بريقُهُ في كلّ كلِمةٍ وبيانٍ يكتنِزُهُ وجدانُ الشاعر المكي عبدالله بيلا في ثاني دواوينهِ بعد ديوانه الأول “تآويل ترابية” ومشاركته الحافلة بالإبداع في النسخة الخامسة من برنامج “أمير الشعراء” بقناة أبوظبي لعام 2013م .

17 قصيدة أو مقطوعةٍ من شعر التفعيلة تعزفُ على وترٍ حزين في رحلة قلِقة بفَلَكِ الشاعر الذي يلملمُ كواكبه في هذا الديوان المرمّم يقول منها :

ولكنّي أمدُّ يدي وأصطادُ النجومَ

ألُمُّها في كيسِ آثاري

أحاولُ أن أرمِّمَ بالنجومِ

صباحيَ الأعمى

ليعرفَ درْبََهُ الأزليّ في دربي

إذا التقتْ الطريقةُ بالطريقةِ

أو دعتنا الشمسُ

نحو وليمةٍ للضوءِ

فوق مدارها اللامُستقِرِّ

ولا المُقيمُ على مدار .

كم هم متعبون هؤلاء الشعراء حين تتّبعهم وتتلمّسُ آثارهم فكيف بصحبتهم ؟! وليس أقلّ توتراً شاعرُنا الثاني : ياسر العتيبي الذي يحمل قلقاً من نوعٍ خاص ؛ ففي ديوانهُ الصغير 18 قطعةً شعرية أيضاً من النوع الحر أو شعر التفعيلة ، ختمها بنصوص قصيرة عددها 14 نصاً أشبه ما تكون في كثافة معانيها بنمط القصة القصيرة جداً .

لم أستطع الربط بين عنوان ديوانه النابع من “قلب حمامةٍ سوداء” وبين مكنونه الغارق في فلسفة الأشياء ؛ فياسر يُغرِقُ في فلسفته ويغشاها الغموض كثيراً حتى تغيب في ظلمتِه حمامتُه السوداء ؛ فإنْ كانتْ الحمامة البيضاء رمزاً للسلام ؛ فهل يعلنُ شاعرُنا هنا الحرب بتلك الحمامة المُغْلِسَة ؟!

وياسر رغم الشعر يخرجُ بين الحين والآخر في ديوانه إلى النثر بمعاني تسترسِلُ في ترجمةِ روحه المتعبة ! فمن بوحه الشعري القلِق  يقول :

لقد كسرتُ غصنَ شجرة

ووُلدتُ بسبب تساقطِ الأوراق

ومنذ تلك اللحظة

وأنا أحاول

أن أتجاوز الأشياء

التي تنكسر أمامي

بخوفٍ وارتباك

وحين نقفُ على باب ثالث تلك الدواوين مع المبدع ماجد عبد الله ؛ فإننا نقفُ على شاعرٍ وكاتبٍ صاحبِ رسالةٍ – منذ كتابه الأول “سيلفي والظل والمخفيّ” – ولديْه بُعْدٌ واضِحٌ في نظمه ونثره يقوم على بساط المحبّة ونشْرِها بين البَشر ؛ فمنذ انطلاقة الإهداء يحدّد لقارئه المسار : لمَنْ كان لهُ قلب !

يحوي ديوانه “وحين يجمعنا القدر” 71 نصاً شعرياً تراوِحُ مقطوعاتُهُ تنوّعاً بين الشعر الكلاسيكي والشعر الحر والخاطرة المُدْرَجة بين ثناياه ختماً وابتداء .

يجنحُ شاعرُنا ماجدُ نحو بساطة اللغة وسلاسة المعنى العذب في نصوصه الرقيقة والمتكرّرة في نسيجها الروحي على امتداد الديوان ، مع حضور قويّ للجُمَل الموسيقية في استدعاء الألحان على نغَمٍ جاذِب وسُلّمٍ مُطرِب يناسبُ موضوعات عزْفِه حول الحب ، والغزل ، والعشق ، والشوق ، والصداقة ، والسعادة ، وغيرها في ديوانٍ يمثّل امتداداً جميلاً لدواوين العشق العربي بالعصر الحديث .

كل نصٍ هنا يقدّم فلسفةً خاصة في الحب لدى الشاعر ، ويرسمُ خريطةً للعشق في فكرِهِ مليئةً بالمعالِم والمثاليّات ؛ فديوان الحب لديه رَحْبٌ ذو نفَسٍ طويلٍ لا يتوقفُ عند المحبوب الأنْثوي لينطلق في ساحة : حب الله عزّ وجلّ ، وحبّ النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، وحب الأم ، وحب الأب ، وحب الأخت .

ومن أجمل ما يمكن أن يخرج به قارئ هذا الديوان ؛ تلك الطاقة الإيجابية والمحفّزات الروحية نحو الحياة والعيش في رحاب الحب النقي الذي لا يكتفي الشاعر بالتنظير له بل يجاوزه إلى دفع شبهات الحب وتهُم العذاب فيه .. ومن هذا الحب يقول :

حبيبتي لا تيأسي

فغداً ستجمعُنا فراشاتُ الربيع

ونعودُ ننشدُ أغنيات الهوى

بين الزهور

وتحت زخات المطر

مهما تمادى الليلُ في أحزانه

لابدّ أن يُطوى الأسى يوماً

ويجمعُنا القدَر .

وللحقيقة كل واحدٍ من أولئك الشعراء الثلاث أمةٌ وحده : في أسلوبه ، ولمسات إبداعه ، وتجربته الشعرية ، وقلقه الإنساني الخاص ، ولستُ هنا أمارسُ نقد الشعر – وهي المرة الأولى التي أكتبُ فيها عن دواوين الشعراء – بل حسبي أني شاعِرٌ بإبداعِهم الذي لامسَ إنسانيّتي المَحَكّ في كل ما مضى من كلامٍ لا يخلُو عن انطباعات تتلمّس مواطن الجمال وحسب ؛  فعفواً أيها الشعراء ورفقاً أيها النقّاد !

من آخر السطر :

الشعر غوايةٌ تنقادُ فيها الروح لمراتِعِ الكَمَال ، وملاذٌ للنفوس التوّاقة نحو الخلاص من ثِقَلِ الواقع ونَيْلِ غَفْوةٍ حالِمة في سياق شاعِرٍ يجيد رَصْف الأحلام !

غواية الشعر

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بعد محاولات تم التسجيل في الصحيفه اكراما لقلمكم المتميز . حقيقة بعد التعريف الباذخ للشعراء وددت لو امتلكت قريحة الشعر لكن ندرك بقلوبنا ما لاتدركه حروفنا فنشاركك متعة الغوايه مع الشاعر الاخير ..دمت شامخا بالرقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى