مجموعة "تشافيت"

السرطان .. طي النسيان

أنت مصاب بالسرطان .
هكذا يُقال لك .. ولن يسبقها كلمة أو عبارة تناسب الموقف.
ليس فرحاً ليُقال : بارك الله لك.
ولا عزاءً ليرددوا : إنا لله وإنا إليه لراجعون.

قصتي بدأت قبل عام. شاءت أقداري أن تُكشِّر عن أنيابها وأن يتم تشخيصي طبياً كمصابة بسرطان الثدي.
كنتُ حاملاً .. فتخليت عن فطرة البشر، ولم أتم أشهري التسعة. انتزعوا طفلتي من أحشائي بالقوة. وبسبب كتلة تقبع في صدري، سُلبت حق الرضاعة.
وأمسيت بتفكير أناني، لا يشغله سوى البحث عن إجابة ذاك التساؤل اليتيم. ذاك التساؤل العقيم.
( كيف يعود جسدي طاهراً من خبثٍ أصابه ؟ )
بدأ الصراع.. وحان وقت اتخاذ القرار. فهل سأتمرد على السرطان ؟ أم أختار الانصياع؟.
يقع خبر الإصابة على المسامع وقع المدافع. فيعزلك في عالم بعيد. ويحشرك مع المخاوف وحيداً. كل شيء يصبح ركيكاً ويتداعى. جسدي خارت قواه، ومعه خارت عيناي. أضلعي لم تعد مكوَّرة، بل مسننة تنهش قلبي و رئتي. حيناً يتسارع نبضي، وحيناً تتباطأ أنفاسي. وكأني في قبر لم يحتضني، بل ضم روحي وفكري.
يختطفك السرطان من الواقع، ويرحل بك بعيداً. وكأنه حاكم ظالم، امتلك جسدك عنوة، سيطر على فكرك غصبا. ولا يتوانى عن نبذك إلى عالم الصمت. فكل من حولك يتحدث، وأنت لا تسمع شيئاً.
فقدت وقتها حلاوة الدنيا ومتعة معاشرة أهلها. وأصبح كل أمر مؤلم. كل رسالة، وكل اتصال، وحتى السؤال عن الحال.
حينها .. بدأت أكتب. بدأت أصرخ حروفاً وجملاً وعبارات. بدأت أصف حقيقة الحال، وأن لاشيء محال.
بالكتابة ربط الله على قلبي، و رتَّب بعثرتي. وبالرغم من أن كل شيء مشتت، ضائع و ضرير، إلا أنه استجمع قواي. فأصبحت التمس رحمته في كل يوم ولحظة. حين أتعب أردد : ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ). وحين أسعد أتلو : ( إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ).
يوماً بعد يوم، تغلبت على ذاك الخوف و الرهاب. وليلةً تلو أخرى اجتزت كل الصعاب. اجتزتها باستسلام تام لأقدار مكتوبة، بإيمان خالص أني برحمته مشمولة، وبإحسان الظن بالله. فأمرنا كله خير، ولو بعد حين.
وحان الحين. ونفع الله بكل علم علمنا إياه. وكتب شفاء لا يغادر سقما. فلا شفاء إلا شفاؤه.
فماذا أخذ السرطان؟ وماذا أعطى؟. لعلي لا أجد ما سرق.. يستحق. ولكن ما أعطى كان نفيساً. فقد أهدى جسدي ندوباً، و الحمد لله أنها بوضوح الشمس لتذكرني بالسرطان وماذا فعل. فلا أتباهى بالعافية وأتجبر. وأهدى روحي صحوة لتوافه الدنيا، ويقظة من غفلة ملذاتها، فلم أعد أهتم بها، ولا أهتم لها.
فعذراً أيها السرطان، لستَ كما كنت أعتقد. ولو كنت أعلمك علم اليقين، لما رأيت الجحيم. لما ذرفت عليك دمعة، ولا حرقت نفسي لأجلك لحظة.
لستَ سوى شبحٍ تخيلناه، فأرهبنا. لستَ سوى كذبةٍ صدقناها، فأرعبتنا. لستَ سوى قدرٍ، بقدر ما ظاهره قسوةً وألم، فإنه يحمل في طياته الكثير من الخير والقيم.
عامٌ مضى، كنت أعتقد أن الأجل قد حان ودنا واقترب. ولكن برحمة الله، تحقق العكس تماماً. فالإنسان يولد مرة، وأنا ولدت مرتين.
ولعل الجميع سيتساءل ( ما هو الشعور الذي يتملكنا مع المرض؟ ). والإجابة تعتمد على كل مريض. فأنا تعلمت من واقع التجربة، ومن حقيقة كل القصص التي تُحكى في غرف الانتظار، أن السرطان روايةّ مختلفة بلا توقعات لأحداثها. ليس كل ما يُقال عنه ونسمع صحيحاً بالإجماع وعلى حد سواء.
إبادة العلاج الكيماوي متفاوتة، وآثاره مختلفة. لن يؤكدها لك طبيب، ولن يجزم عليها مُعالج. خيارات الجراحة أيضاً متعددة، وليست محتومة. وتبقى حروق الإشعاعي محتملة.
فشكراً أيها السرطان. ما كنتُ لأكون ما أنا عليه اليوم لولا احتضاني لك. جددت كل إحساس جميل في حياتي، وجعلتني أقوى. شكراً لأنك أعدتني طفلة مدللة لوالديّ. وجددت عهود المحبة والوفاء بيني وبين رفيق عمري.
قيل أن السرطان مرض عظيم، الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود. وأنا أقول : للسرطان ربٌّ أعظم، الداخل فيه لحكمته والخارج منه برحمته.
اليوم وبكل فخر، كمتعافية من سرطان الثدي أردد :
إصابتنا بالسرطان ليست خياراً، ولكن قراري الشجاع أن أحيا بسعادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى