المقالات

نظرة على المعايير الفنية والتشكيلية لمُتذوقي الفن

صنّف نُقاد ومُؤرخي الفن التشكيلي الأعمال الفنية بمُصطلحات فنية تحتوي على أنواع عديدة من الأساليب الفنية والتشكيلية. بعض من الأساليب الفنية والتشكيلية توقّف ولم يستمر، والبعض الآخر كان قابلًا للتطوير، فاستمر حتى عصرنا الحديث، ثم انتهي الأمر أخيرًا في زمننا المُعاصر على تحديد مُصطلحات فنية تشير إلي أهم الأساليب الفنية والتشكيلية التي أسفرت عنها نتائج تجارب الفنانين السابقة. ونحن لا نعتبرها مُصطلحات نهائية طالما الفنانون دائمون في البحث مما يجعلنا أن نتوقع بأن سوف يُضاف إلى قائمة المعايير الفنية والتشكيلية الحالية مُصطلحات فنية أُخرى لم تكن مُستعملة من قبل.

فيما يلي نظرة مُختصرة على أساليب فنية مُتعارف عليها، وهي تُمَثِل المعايير الفنية التشكيلية التي يستخدمها نُقاد ومؤرخي الفن في شرح الأعمال الفنية، وتحديد قيمتها الجمالية حسب جهودهم الفكرية وإمكانياتهم المُتاحة.

فن تشخيصي figurative art
الفن التشخيصي هو فن يعرض الأشكال المألوفة التي نشاهدها في الطبيعة من عناصر وما تحتويه حياتنا اليومية من أشياء. يتكون عناصر الفن التشخيصي من رسم وتصوير وتشكيل عناصر يرسمها الفنان من الطبيعة أو من الواقع باستخدام وسائط فنية مثل الرسم والنحت وغيرها. منها على سبيل المثال رسم وجوه أشخاص، أو رسم أشخاص بأجسامهم كاملة في حالات إنسانية متنوعة، أو رسم المشاهد الطبيعية مثل: أشجار أو مباني أو منازل أو صخور أو بحار أو صحراء و غيرها، أو رسم ما يُسمى الطبيعة الصامتة مثل: زهور أو فواكه أو أطباق فارغة أو كتب أو أكواب أو إناءات من الخزف أو خامات أخرى وغيرها.

يبادر الفنان العناصر بالمُشاهدة والتأمل، ثُم يتفاعل معها فيميل إلى بعضها حسب رغبتهُ وتذوقهُ الفني وحصيلتهُ الثقافية والفطرية، فيختار منها ما يشاء ثم يعيد تصويرها أو رسمها أو نحتها كما يراها على مُسطح لوحتهُ أو بواسطة خامات أخرى يراها مُناسبة.

يتفرع من الفن التشخيصي أساليب متنوعة أهمها ما يُسمى الانطباعية، والواقعية، والكلاسيكية، والسريالية، والميتافيزيقية، والواقعية الساحرة، والتأثيرية أو التنقيطية.. وغيرها ولكل أسلوب علامات وتشكيلات فإن شاهدها مُتذوقي الفن في متحف أو قاعة عرض أو في غيرها من وسائل الإعلام فيستطيع أن يعرف خلال حصيلتهُ الثقافية وتذوقهُ الفني أي نوع من الأساليب تنتمي هذه الأعمال الفنية، وفي أي حقبة زمنية تقع.

فن تجريدي abstract art
الفن التجريدي هو أسلوب فني تشكيلي يعبّر عن بحث ودراسة في أشكال الطبيعة والواقع، يرسم الفنان الشكل الذي يرغبهُ كما يراه أمام بصره في الطبيعة والواقع أو كما يرى صورتهُ في ذاكرتهُ. يعيد الفنان رسم ما يراه على مُسطح لوحتهُ أو نحتهُ في أي خامة يراها مناسبة مثل الحجر بأنواعه أو الخشب بأنواعه أو غيرها ثم يحذف منهُ من تفاصيل ما يراه مناسبًا ويضيف إليه ما يراه مناسبًا سواء في تكوين الشكل ذاتهُ أو تآلف الألوان. يستمر الفنان في عملية تشكيل الحذف والإضافة حتى يصل في النهاية إلى شكل مُجرّد من التفاصيل الزائدة ربما يوحي الشكل بعد الحذف والإضافة إلى شكلهُ الهندسي الأول. بالطبع ليس هناك أسلوب مُحدد يتبعهُ الفنان في عملية الحذف والإضافة فلكل فنان بصمتهُ الشخصية ووجهة نظرهُ الشخصية ورؤيتهُ الشخصية، وبالتالي تتنوع طبيعة الحذف والإضافة من فنان إلى آخر، وعلى هذا تتنوع أيضًا نتائج الإخراج التشكيلي، ولكنها تسير جميعًا على وتيرة واحدة.
تعتبر الطبيعة هي مصدر واقع التجريد. يحتوي الفن التجريدي على أنواع منها التجريدية التركيبية والتجريدية التحليلية والفن التكعيبي، وفن دي ستايل، والفن الهندسي وما يتفرع منهم.

فن مفاهيمي conceptual art
بدأ الفن المفاهيمي حينما ترك الفنان مُحاكاة الطبيعة والواقع ودراستهُ وتحليلهُ واتجه إلى التفكير في الأحداث الإنسانية التي تحدُث على أرض الطبيعة والواقع، لذلك سُمي هذا النوع بالفن المفاهيمي بمعنى مُحاكاة الفنان للمفهوم الناتج عن المَشَاهِد التي تحدث على أرض الطبيعة والواقع.

ظهر الفن المفاهيمي أثناء عصر الصناعة في أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر، حين بدأ الفنانون يعترضون على أنواع الفنون السابقة التي أبدعها رواد الفن عِبْر التاريخ ولم يقبلوها؛ لأنها لم يكن بها آثار مما تركتهُ أثر الصناعة على النفس الإنسانية من عناصر مثل: عنصر الحركة وعنصر السرعة والآلات الصناعية ذاتها، ومن ثم أصبحت فنون أساتذة الفن السابقة بالنسبة للفنانين المفاهيميين محدودة الخيال، وعلى ذلك اعتبروها محدودة القدرة الإبداعية، فلما نشبت الحرب العالمية الأولى أكّدت الحرب هذه التغييرات، إذ وجد الفنان نفسه يخوض صراعًا مع ما هو تقليدي في عالم الفن باستخدام الفكر بهدف أن يتوحد مُباشرةً مع الواقع والطبيعة بأسلوب مُخالف عن ما سبق تقديمهُ في الفنون السابقة، ومن ثُم لجأ الفنانون المفاهيميون إلى استخدام الرؤية الفكرية في إبداع أعمالهم الفنية.

يستوحي الفنان المفاهيمي أعمالهُ الفنية من المَشَاهِد التي تحدث على أرض الطبيعة والواقع، بل أحيانًا يستخدم العناصر الطبيعية ذاتها يدمجونها في أعمالهم المفاهيمية، غالبًا يستخدم الفنان المفاهيمي عناصر من الواقع يوضعها في مناخ واقعي آخر مُضاد له في الشكل واللون.
يتفرع من الفن المفاهيمي أساليب متنوعة نذكر منها ما يُسمى فن الدادا، وفن الأرض، وفن الأداء (البروفورمانس)، وفن التركيب والإنشاء (انستيلشن)، وفن الفيديو، والفن الرقمي ….. وغيرها.

الفن الكونكريتي (الفن الهندسي) concrete art
الفن الكونكريتي هو فن ليس له علاقة بالفن التشخيصي ولا الفن التجريدي ولا الفن المفاهيمي وما تفرّع منهم. وليس له علاقة بالواقع ولا المَشَاهِد التي تحدث على أرض الواقع ولا الأفكار ولا المشاعر، ولا العواطف. كما لا يُطلق عليه تصنيف أو مُصطلح فني تشخيصي ولا تجريدي ومفاهيمي ولا تعبيري ولا تأثيري ولا سيريالي ولا ميتافيزيقي، الأرجح أنه امتداد فن دي إساتيل؛ لكونه يشترك معه في العلاقات الهندسية و لكنهُ مُختلف عنهُ في التناول وربما أيضا في الإخراج التشكيلي.
تشتق كلمة (كونكريت concrete) من اللغة اليونانية القديمة، وهي كلمة ليس لها مُقابل أو مُصطلح فني في اللغة العربية، ولكن أقرب وصف اجتهادي لمعنى هذا الفن هو تسميتهُ بـالفن الواضح، أو الفن المُلخص لكونهُ فن يعتمد علي الإدراك المُباشر للقوانين التي تسير عليها الطبيعة والكون.

يستخدم الفنان الكونكريتي أشكالًا هندسية معتمدًا على عناصر تشكيلية بحتة، وهي النقطة ( . ) و الخط ( – ) والدائرة ( O )؛ حيث يتكون منهم أشكال هندسية على أن تكون غاية في التلخيص، كما يستخدم فناني هذا الاتجاه الألوان الأساسية، وهي اللون الأحمر(الماجينتا) واللون الأصفر(البريماري) واللون الأزرق (السيان) على أن تكون الألوان غير مُختلطة بألوان أُخرى؛ بحيث يبدو كل لون مُستقل بذاتهُ. لذلك ترى أن أعمال الفنانين الكونكريتيين تُشبه بعضها البعض؛ وذلك نسبة إلى تقارب أفكارهم وعدم انتماؤهم بما يسمى الوطنية أو القومية، ورغم ذلك نستطيع أن نرى بينهما فوارق سواء في التناول أو الإخراج التشكيلي.

لا يستخدم الفنانون الكونكريتيون في لوحاتهم أشكالًا تشخيصية لأن التشخيص هو مُحاكاة الواقع، ولا يستخدمون أشكالاً تجريدية لأن التجريد له علاقة بالواقع وتحليلهُ ودراستهُ، ولا يستخدمون أشكالاً مفاهيمية لأن الفن المفاهيمي يبادر الأفكار التي ترتبط بأحداث ومشاهد الواقع، إنما الفنانون الكونكريتيون يستخدمون أشكالاً هندسية بحتة مُستوحية من نظام الكون من وجهة نظر عالية. وهذا ما نلمس له شبيها فيما جاء به الفن الإسلامي الاتجاه الهندسي ففيه تتوفر هذه المعايير من وجهة نظر عُليا، ولكنها ترتبط أيضًا بوجهة نظر تأملية روحية.

فيما يلي توضيح نموذجي افتراضي للفنون السابقة:
مثال:
(القارب يغرق في الماء)، هذه صورة تخيلية للفن التشخيصي، وهي صورة تشخيصية واقعية.
( تغرق الأشياء إذا زادت كثافتها عن كثافة السائل)، هذه صورة تخيلية للفن التجريدي، وهي صورة تجريدية تحليلية من الواقع.
(الأشياء الثقيلة تسقُط)، هذه صورة تخيلية للفن الكونكريتي، وهي صورة مُلخْصَة دون تشخيص أو تحليل.

فنان و ناقد تشكيلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com