المقالات

بونٌ شاسع بين ما تراه وما أراه!

قد قيل إن أسوأ مسافة بين شخصين هي “سوء الفهم”. وهذه المقولة العميقة تختصر الكثير من التفسيرات لمشاكلَ مفتوحة النهايات، وقطيعةٍ غير مبررة في كثير من العلاقات، مهما كان مستوى هذه العلاقة، سواءً كانت أسرية، أو مهنية، أو كانت تندرج تحت دوائر الصداقة، أو غير ذلك.
هبْ أنك طرفٌ في مشكلةٍ ما، ثم تأمل هذه المشكلة بنظرة المنطق والعقلانية، بعد مرور فترة من الزمن، وبعد خروجك من سيطرة العاطفة عليك، سواءً كان شعورك يسيطر عليه الحزن، أو الغضب، أو الإحباط، أو حتى الانتقام في بعض الحالات.
هذه الطاقة العاطفية التي أهدرتها، ستجد بعد فترة من الزمن أنها لم تصرف لأجل ما يستحق، وأن هذه المشكلة، أو الشرارة التي أشعلت فتيل هذا الخلاف سببها سوءُ فهمٍ، أو اختلافٌ في النظرة إلى موضوع الخلاف، في حين أن هذا الخلاف كان من الممكن أن يتم حله في جلسة حوارٍ تتقارب فيها وجهات النظر.
حتى وإن لم تتوافق وجهات النظر، فهي على الأقل، ستكون بعد جلسة الحوار تلك واضحة المعالم؛ فكل طرف سيعرف ماهي وجهة نظر الطرف الآخر، وما هي دوافعه إلى ما انتهى إليه، فبالتالي سيصل الطرفان إلى حقيقة لا يُساء فيها الظن، وإلى حلٍّ مرضٍ للطرفين، أو إلى منطقةٍ رمادية منزوعة الخلاف بينهما، أو اِتفاقٍ على تجاوز الأمر دون إيذاءٍ عاطفي لا طائلَ من ورائه، بل ربما قد لا يستطيع أحد الأطراف تجاوز آثاره!
هناك بونٌ شاسع بين ما نراه بأعيننا، وما نراه بأسماعنا حينما نرخي الحبال لنميمة “يقولون” -دون أن نتحلى بحزم التثبُّت من ناقل الخبر- وبين حقيقة أمرٍ لا نعلمه. الأمر الذي قد يكون صاحبه اختار إخفاءه برغبته، أو حتى رغمًا عنه. فلماذا نفترض الأسوأ دائمًا عما نجهله، ونقبل بالتكهنات، والتحليلات، و”بهارات” أضافها من “يقولون” بشكل مقنعٍ -أحيانًا- ومؤذٍ -غالبًا- لأطرافٍ لا ذنب لها. وهذا ما يحدث إذا ما تم تغييب حسن الظن، وتجنُّب الفيء إلى أمان “لعلَّ لهُ عذرًا وأنتَ تلومُ”!
لكلٍّ منا جانبٌ نظهره للناس، وجوانب أخرى نختار إخفاءها؛ لاعتبارات كثيرة تختلف من شخص لآخر. وحتى هذا الجانب الظاهري قد لا يظهر “كاملاً” حتى لأولئك الذين نطمئن لأن يرونا عن كثب، والذين تقربهم المواقف والأقدار ليروا منا أكثر مما ينبغي في بعض الأحيان.
فما دمنا نحن من نختار إخفاء بعض جوانب شخصياتنا؛ فما بال بعض الجاهلين بجوانبنا الخفية وسرائرنا -التي لا يعلمها إلَّا الله- قد أطلقوا العنان للتحليلات، وصدَّقوا النتائج التي توصَّلوا إليها بفراستهم المزعومة، فهم يجيدون فهم الناس كما يظنون، وأصبحوا يطلقون الأحكام بشكل قطعي مستفز!
بل أن البعض تعدى مرحلة التفسير الذاتي إلى مرحلة إشاعة تلك التحليلات للآخرين تحت مظلة “أنا أفهمه أكثر منكم”، على الرغم من أن هذه التحليلات ليست إلا “افتراضات” قد تكون أبعد ما تكون عن الصواب. ولا يخفى على عاقلٍ ما يمكن أن تفعله تلك الإشاعة من دمارٍ للعلاقات، وسمومٌ توغل في الصدور.
لذلك، قبل أن نفتح أبواب أسماعنا لأولئك الذين “يقولون” عن ذلك الشخص مهما كانت نواياهم؛ فلنطرق باب ذلك الشخص “المقصود” ونأتي البيوت من أبوابها، ونأخذ العلم من مصدره، عوضًا عن الخوض فيما لا يُطال من خلفه إلا الغرق في أوحال سوء الظن وحبائله.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كثيرة هي المواقف التي نختار فيها الصمت، بدلاً عن المواجهة، ويبقى عبئ الصمت على إدارة الأفكار وتحويرها، فمن يتقن إيقاد شعلة التأمل في عقله، سيجد أن لكل سؤال إجابات، ولكل انطباع انعكاساته، وقليل ونادر، أن يبقى الإنسان يحفل ويكترث ويهتم، ويحب، وينتمي، رغم كل مسار الصمت الذي كلفه وقتًا وجهدًا ليبتسم رغم كل المواجهات التي تجنبها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com