جدارية شاعر

مذكرات قلب مثقوب (سلطانة)

عام 1974م، كان هواء القصر يحرِّك أغصان شجر القصر، وزهوره الفوَّاحة صغارٌ يلعبون (البِّربِر) وصغيراتٌ يردِّدن:
(جنَّة والا نار. ..جنَّة)
ترمي الطفلة من خلف شعرها الأسود الحصوة التي تنتظر جنتَّها.
في هذه الأثناء وعلى طرف الرصيف، كان الفطور شهيًّا مع بنات القصر (تميس وفول، شاي أحمر، جبنة بيضا، حلاوة طحينية)
_ صحيح يازين حتتركوا القصر.
_ للأسف ياسعاد.
_سعيد أخو سعاد:
لا مو معقول يمكن إشاعة أو تمزح معانا.
_ لا والله ياسعيد.
مو إشاعة.. ياليت.
لاتزال تلك الجلسة منقوشة في ذاكرتي، وحتى آخر أيامي سوف أتذكر ذلك اليوم.
بعد الفطور بدأ ت أساعد إخواني ووالدي على نقل العفش إلى سيارة، وانيت مستأجرة كان أبي قد جهز لنا منزلًا شعبيًا جديدًا في سلطانة فرحة الانتقال تختلط بدموع الفراق فراق بنات القصر وشبابه ليس سهلًا على النفس فذكريات الحب والحنين لا تقاوم:
أم منصور، أم علي، بنات غامد وشبابه، وشلَّة الأنس والسهر، ذكريات وأمسيات.
لعِبُ الطفولة، أميرات القصر، وجيرانه، أخواتي وذكرياتي، الفتاة الغامدية التي رسمت على جدار جرانيت منزوي اسمي، واسمها دون علمي على نقش صورة قلب، وقمت بمحو اسمى حين فوجئت به وتركت اسمها وحيدًا هناك.
(القلب) ذلك الرَّمز الذي يخترقه سهمٌ نُقِشَ من قديمٍ على جدران بيوتات المدينة الطينية عادة قديمة لزمن الطيبين وإحدى وسائل التواصل، والتعبير لشباب طيبة التي لا تزال في الأحياء القديمة عصيَّة على المحو والنسيان، والتي تعبِّر عن عذاب الحب وعلاقاته البريئة قبل أن يظهر الهاتف المنزلي ثم البيجر ثم الجوال ثم انفتحت أبواب الشهرة والعلاقات المحرمة، وغير المحرَّمة والتفاهات وغيرها عبر وسائل حديثة فيس، واتس، سناب، وحتى عبر تويتر، وكلوب هاوس…
كلُّ الذكريات لذلك الزمن البريء الطاهر من لوثات العصر الحديث وأدرانه كلُّها، كانت تدور في مخيلة طفلٍ بريءٍ أبيض القلب طاهر الأردان تسابقه الدموع التي تختلط بدموع فرح البيت الجديد والحي الجديد والجيران الجُدد.
ينتهي طريق سلطانة بالقصر، وقد سُمِّي باسم امرأة صالحة، كان لها أوقاف في سلطانة، لكن التاريخ لم يذكر لنا عن سلطانة شيئًا ذا بال، وتذكر بعض الوثائق التاريخية.. إن سلطانة اسمٌ لأحسن المزارع، وأنقاها وأكثرها عطاءً في المدينة.
يبدأ شارع سلطانة من ثنية الوداع الشمالية التي تُعد من أبرز الشواهد التي دخل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المدينة من تلك الجهة عقب غزوة تبوك وخيبر، ويرى بعض العلماء أن أنشودة (طلع البدر علينا) أُنشدت عند هذه الثنية فيما ينتهي الشارع على ضفاف وادي العقيق المبارك؛ حيث ينتصب قصر سعيد بن العاص كأبرز معالم المدينة وأكثرها دهشة.
وبين القصر وسلطانة والعقيق، كان الصبي الصغير كلما كبُرَ وتقدَّم في العمر يستعيد ذكريات التاريخ، ويستلهم شعراء العقيق على ضفاف وادي العقيق الذي كان يفيض بمياه الأمطار وبعض العيون، وقد قيل شعرٌ رقيق غُذِّي بماءِ العقيق.
كان الصبي كعصفورٍ وحيد يغرِّد على غصن شجرةٍ متدلية على الماء الملَّون بلون الطين البني.
لحظاتُ وداعٍ حزينٍ بين أمي وجيرانها في بدروم القصر وأروقته تختلط بتبريكات العجائز بالبيت الجديد.
_لاتنسينا يا أم منصور زورينا مرة مرة.
أقل شي كل أسبوع.
_ والله على عيني ياأم علي واحنا نقدر نتأخر عنكم. أنتم أهلنا وأحبابنا.
تدلف طفلة صغيرة اسمها بدريِّة؛ لتقول لأم منصور التي تغادر إلى بيتها الجديد لا تنسي ياماما الشكولاته والحلوى من المدينة.
_ أبشري يابدريِّة أجيب لك أحلى حلوى يا أحلى الحلوين.
كأني أرى عجايز القصر وبناته ونساءه وأطفاله وهم يتحلقون على أمِّ منصور وأولادها وبناتها، زغاريدُ ودموع فرحٌ وحزن، موكبٌ صغير متواضع يمر بهدوء تترجل الأميرة المتواضعة.
_ معقولة ياأم منصور تتركينا وتنتقلي وأنتِ.
ما خبرتينا الله يسامحك أقلّ شيء كان سوينا لك حفلة وداع تليق بك والعم غرم الله.
_ والله إن فراقكم صعب وتعرفي مع دوشة النقل وأبو عبد الله استعجل علينا فجأة قال خلاص جاء موعد النقل فسامحينا.
تحتضن الأميرة أم منصور.
_ إحنا هنا أهلك وعيالك لاتنسينا، وأي خدمة أنا طوع أمرك.
_ لا أمر عليك والله إنك أصيلة يا أميرةَ الكلّ.
إحنا أكيد بنشتاق لكم كثير.
_ المهم الله يوفقك، ويفتح عليكم، ومبروك البيت الجديد.
تعود الأميرة المتواضعة إلى سيارتها، وتنطلق إلى داخل القصر، وتتحرك سيارة أم منصور وسط زغاريد نساء القصر وبناته.
وفي تمام العاشرة صباحًا من يوم الثلاثاء 1يناير1974م، الموافق 8 ذي الحجة 1393هـ.
يصل وانيت أبوعبد الله حارة النصر على بعد 5 كيلوات من القصر.
وتبدأ عملية إنزال العفش المتواضع (ثلاجة، بوتاجاز صغير، سحَّاريَّة، حقائب صغيرة ومتوسطة الحجم، شراشف، ومراتب…..)
البيت الشعبي الجديد دور واحد يتكون من غرفة استقبال على اليمين مفروشة بحصيرة لاتتجاوز ثلاثة أمتار في مترين ونصف، وغرفة مقابلة لغرفة الاستقبال بينهما ممر صغير.
وصالة تتوسط البيت ووجود حمامين أحدهما يفتح على حوش يحيط بالبيت من جوانبه الثلاثة، ومطبخ صغير، وسطوح يشتمل على غرفتين إحداهما كانت فيه الجدَّة المعمَّرة _رحمها الله _.
حيٌّ جديد، وحياةٌ جديدة بدأت فصولها كمسرحية تبدأ بمشهد درامي حزين.
وفـي سـلطانةٍ ذكرى وشكوى
تــهـيـجُ ببــعـض آلام الــزمـانِ
صغيرًا في العقيقِ يهيم قلبي
بــأشـعـارِ الـمـحـبةِ والـغـواني
سـلوا الـتاريخَ مافعلت بقلبي
ومــا كـتـبت بـألـوانِ الـجمانِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com