«مذكرات قلب مثقوب»
ذات ظهيرة من عام ١٣٩٩ هجرية، زارنا ضيف ثقيل في سرعة وفجأة؛
فاختطف الموت مني أخي الصغير الظريف العبقري ذو الست سنوات، فكاد قلبي أن ينفطر.
(ومرّت سنواتٌ حزينات، نسيت وسلوت)
ثم عاد الاختطاف بليالٍ مظلمة، واختطف فيها عمّاتي وجدّاتي وخالي وخالتي.
(ومرّت سنواتٌ حزينات، نسيت وسلوت)
ثم هجم من جديد، واختطف مني الشاعرة الراوية العبقرية العابدة الذاكرة: جدتي أم أبي، وعنها ورثت الشعر والرومانسية.
(ومرّت سنواتٌ حزينات، نسيت وسلوت)
ثم اختطف الموت الصامتة الحبيبة التي لا تذكر أحداً بسوء: جدتي أم أمي، بعد الوضوء لصلاة الظهر، ودُفنت في البقيع.
(ومرّت سنواتٌ حزينات، نسيت وسلوت)
ثم زار الموت بيتنا للمرة الخامسة، فخطف سريعاً خلال ست سنوات بعثتي للمغرب لدراسة الدكتوراه، خطف سريعاً فجأة ثلاثة إخوة:
عبدالعزيز (60 سنة)،
وثنّى الموت بسهيل (41 سنة)، الذي بكى عليه أبي بكاء يعقوب على يوسف، وقلت له كما قال أبناء يعقوب:
{تالله تفتأ تذكرُ يوسف حتى…}
ولم أكمل الاقتباس من الآية.
ثم ثلّث بمحمد (51 سنة).
(ومرّت سنواتٌ حزينات، نسيت وسلوت)
وما كاد جفناي وأجفان أبي أن تجف، وما كادت تُرفع مقاعد العزاء، حتى زارنا الموت فجأة وفجعنا بخطف (أمي) رحمها الله، الصابرة على المرض والمحتسبة سنواتٍ وسنوات.
وها أنذا ألتفت يمنة ويسرة: من تخطف يا موت؟
بقي أختان:
(صفية وعائشة)
وأخوان:
(عبدالله ومنصور).
وبقي عمود الدار وأساسه: والدي حفظه الله، يقاوم المرض واختطافات الموت لبنيه ورفيقة دربه بصبرٍ وثبات وبأسٍ شديد وعزمٍ فريد؛
قلبٌ بدعامة، وصدرٌ بتليّف، وعمرٌ جاوز الخامسة والتسعين.
وبقيتُ أنا في الثامنة والخمسين، أقاوم تقدّم العمر وتتابع الأزمات المرضية والانكسارات النفسية، وحيداً بلا زوجةٍ ولا بنتٍ ولا ولد، بين خوفٍ وقلق:
متى يصل ملك الموت ليخطف الواقفين في الطابور:
أبي، عبدالله، منصور، عائشة، صفية، وأنا؟
طابور قصير صغير لا يُعجز ملك الموت أن يضرب ضربةً واحدة، أو يخطفهم على غِرَّة ومَهَل، فتتساقط أحجار الدومينو، أو يطير بهم كأوراق الشجر.
يا موت، لا تخطف أحبابي خطفةً واحدة، ولا تخطفهم تباعاً فجأة؛ لكن كن رحيماً برحمة من الله، خذهم إذا جاء الوعد الحق بلطفٍ وبرفقٍ وتذكيرٍ بحسن الخاتمة، وأحسن أخذك واختطافك.
أعرف يا ملك الموت أنك عبد مأمور، ولكن اعرف قول الله في الحديث القدسي:
“وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ”
وفي رواية: (يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ إِساءَتَهُ)، وفي أخرى: (يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَمَاتَهُ).
أتمنى من اليوم أن أتوقف عن الغربة والسفر، وأن أذهب وحدي معتكفاً كراهبٍ في صومعته، وعابدٍ في مسجده، وصوفيٍّ في زاويته.
اللهم أعني على التوبة والأوبة وحسن العمل وحسن الختام.
يا موت، إننا في انتظارك بقوة وصبر وشجاعة ورباطة جأش، رغم بشاعة أخذك وشدة بأسك وسرعة خطفك، ولا أقول إلا كما قال إسماعيل لأبيه:
{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.