منتدى القصة

حياة جديدة

كانت شبه نائمة بعد أن أدت صلاة الفجر، وجلست تقرأ أذكار الصباح..تُنادى إلى سمعها جزء من الحوار الدائر بين ابنها وبين زوجته..وهو يقول لها ماذا تريدين أن أفعل، وليس عندي من المال ما أستطيع منحه لابني؛ ليكمل به المهر أو ما يحتاجه من مصاريف لإقامة حفل الزواج، وتأثيث الشقة وقيمة إيجارها..أنت تعلمين أن رُبع الراتب يذهب لسداد قرض البنك والربع الآخر لرسوم مدرسة البنات، وما بقى منه بالكاد يكفي للمصاريف..تململت في مقعدها..عقدت يديها خلف رأسها، وأخذت تحدق في سقف الغرفة، وقد زمت شفتيها في تفكير عميق، وقد شغلها ما سمعته من أطراف الحوار، وهما يتحدثان عن الاستعداد لزواج حفيدها الذي تخرج من الجامعة قبل خمس سنوات، وبالكاد استطاع أن يوفر من راتبه مبلغًا بسيطًا لا يكاد يكفي لكل متطلبات الزواج الباهظة..تنهدت بحرقة، وقد تراكمت في داخلها طبقات من مشاعر الحزن جاشت بها أعماقها..نفضت من عينيها ما تبقى من النعاس، ونهضت إلى النافذة وفتحت الستارة على مصراعيها..سرى في أوصال الغرفة تيار دافق من أشعة الشمس الدافئة..فتحت باب الغرفة لابنها، وهو يأتي إليها كعادته كل صباح للسلام عليها، وتقبيل يديها ورأسها طالبًا منها الدعاء، وهو ذاهب إلى عمله..ضمته إلى صدرها وحضنته بقوة كأنما أرادت أن توصل إليه رسالة هو يعرفها..شعر بدفء مشاعرها؛ كأنما هو لا يزال ذلك الطفل الصغيرالذي طالما اندس بين طيات غطائها الصوفي السميك مستلذًا بالدفء والشعور بالأمان..نظر في عينيها المبللة بالدموع، وهي تقول من كان مثلك بارًا بوالديه لا يخاف ولا يحزن..رفع عينيه إليها داعيًا لها بالصحة وطول العمر، وغادر الغرفة بعد أن لثَّم يديها، وهو يقول لها: الله لا يحرمني من دعواتك يا أمي..توضأت لصلاة الضحى..صلت أربع ركعات..فيما الخادمة تعد لها طعام الإفطار..شربت ما تبقى من كوب الشاي بالحليب قبل أن تطلب من الخادمة أن تأتي لها بأدوية السكر والضغط والقلب التي تعوَّدت تناولها كل صباح..ثم أتبعتها بكأس مترعة من الماء البارد..نهضت إلى دولاب ملابسها، وأخرجت أحد أثوابها الضافية لبسته على عجل، وطلبت من خادمتها أن ترتدي ثيابها..كانت الساعة قد شارفت على التاسعة صباحًا حين ودعت زوجة ابنها، وهي تقول لها: ربما أتغدى عند ابنتي عائشة فلا تنتظروني على الغداء ..خرجت من الباب دون أن تلقي بالًا لما كانت تقوله زوجة ابنها..أوقفت أول سيارة ليموزين قابلتها، وطلبت من سائقها أن يذهب بها إلى سوق الذهب وسط البلد..قصدت محلًا بعينه في مدخل السوق..دفعت إلى صاحبه بصندوق مجوهراتها، وهي تقول له: أنت تعرف أننا لا نشتري الذهب إلا من عندكم منذ أن كان أبوك وجدك -رحمهما الله-..يبتسم صاحب المحل، وهو يقول لها: وهل ننسى الناس الطيبين أمثالكم ياعمة..لقد كان زوجك عم سليمان من أعز أصدقاء والدي وجدي -رحمهم الله- جميعًا..شعرت بالحنين لتلك الأيام الخوالي، وهي تأتي مع زوجها ليشتري لها بين الحين والآخر أنواعًا مختلفة من الحلي والأساور، وهو يقول لها: تزيَّني بها واحفظيها ليوم حاجتك الماسة..وها قد حان وقت الحاجة إليها.. تطلع إليها صاحب المحل، وهو يقول لها: سنعطيك مبلغ خمسين ألف ريال قيمة لهذه الأساور والحزام والقلادات والأقراط ..ثمنًا لها..حاولت أن تراوده لزيادة المبلغ، ولكنه قال لها في كلمة حازمة إكرامًا لك ياعمة سأزيد المبلغ خمسة آلاف ريال..ولو نكن نعرف أنكم اشتريتم هذه الحلي من عندنا لكنا دفعنا لك أقل من هذا المبلغ..ولكننا نعرف عملاءنا ونعرف بضاعتنا..ترضخ لإرادته، وهو يقول لها: سأعطيك شيكًا بالمبلغ على البنك..حاولت أن تثنيه عن إعطائها الشيك واستبداله بالمبلغ نقدًا، وهي تقول له: كما ترى فأنا امرأة عجوز وليس لي تجربة سابقة في التعامل مع البنوك..وهو يصر على أن يكتب لها الشيك قائلًا: كما ترين المبلغ كبيرًا، وليس لدي نقود كافية لأعطيك إياها..كتب لها الشيك بعد أن تأكد من اسمها بالكامل..تناولت منه الشيك، وهو يقول لها: بإمكانك أن تصرفيه من فرع البنك القريب من هنا أو تذهبين لأقرب فرع له للسيدات ..غادرت المحل مسرعة وامتطت صهوة الليموزين، وهي تطلب من سائقه أن يهرول بها إلى أقرب فرع للبنك..بعد عشر دقائق وربما أقل قليلًا توقفت بها السيارة أمام مبنى شاهق ضخم تصطف حوله العديد من السيارات الفارهة ..لم تنتظر من السائق أن يخبرها بأنها وصلت إلى البنك..نقدته أجرته بسرعة، سحبت خادمتها من يدها، واجتازت بها آخر درجات البوابة، داهمها تيار من الهواء البارد المشبع بشذى عطري آخاذ..استسلمت بانتشاء..تلفتت حولها كان المكان رحبًا واسعًا ونظيفًا بل يكاد يلمع من شدة نظافته يسوده هدوء غريب حتى يشعر المرء أنه في مكان خالٍ من الناس..ثمة شبابيك زجاجية تجلس خلفها فتيات أنيقات..أفاقت على صوت فتاة تلبس زيًا عسكريًا، وهي تسألها: إن كانت تحتاج للمساعدة..لأول مرة تعرف أن هناك فتيات يعملن في سلك الشرطة العسكرية..ضحكت الفتاة، وهي تقول لها: لست شرطية ياخالة، ولكنني أعمل بإدارة الأمن في البنك..شجعتها ضحكة الفتاة كما شجعها المنصب العسكري الذي تحتله بالبنك؛ لأن تبوح لها برغبتها في صرف الشيك الذي معها..أشارت الفتاة إلى مكتب أنيق كانت تجلس بداخله سيدة أنيقة، وقالت لها: اذهبي إلى مديرة خدمات العملاء..لم تفهم ما تقصده موظفة الأمن..تحسست حقيبتها اليدوية والفتاة تمسكها من يدها، وتذهب بها إلى المديرة..أجلستها على أحد المقاعد الوثيرة المبثوثة حول المكتب..في رقة متناهية رحبت بها المديرة بعد أن انتهت من خدمة سيدة أخرى..أخرجت الشيك من حقيبتها اليدوية، وأعطته لها طالبة صرفه..أخذت الفتاة الشيك ودوَّنت على ظهره كافة المعلومات من واقع بطاقة الأحوال المدنية كما دوَّنت رقم هاتفها الجوال..ثم التفتت إليها قائلة: أقترح عليك ياخاله أن تفتحي به حسابًا في البنك، ونعطيك دفتر شيكات وبطاقة سحب بدلًا من أخذ المبلغ نقدًا..لم تترك المديرة تطيل في شرحها حول فوائد فتح الحساب في البنك، وقالت لها ضاحكة: يابنتي لو كنت أرغب الاحتفاظ بهذا المبلغ لتركته كما كان ذهبًا..إنني أريده الآن لأفتح به حسابًا لحفيدي ليحقق لنفسه حلم حياته، ويبني به حياة أسرة جديدة..ابتسمت المديرة وكأنما فهمت ما تقصده العجوز..ثم طلبت من إحدى الفتيات اللواتي يجلسن خلف الشبابيك الزجاجية صرف الشيك، وإحضار المبلغ من فئة الخمسمائة ريال، ووضعته في مظروف حتى يسهل عليها حمله..شكرت المديرة على حسن صنعها، وأودعت المظروف قاع صدرها..ومضت بخطوات واثقة إلى خارج البنك..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com