منتدى القصة

النافذة..

حين ينتصف الليل، تسود شريعة النوم، تمارس الطرق تأملها بهدوء، وتسدل ستار الصمت في أجسادها المضاءة، مشت على الطريق باستحياء سيارة صغيرة، كانت سرعتها تورث الشك في كون سائقها في كامل انتباهه، أوقف سيارته جوار جدار كتبت عليه عبارات العزاء، كانت مقبرة مظلمة، نزل يمشي للحائط كأنما يجر قدميه، ثم قفز وارتقى فوق الجدار بخفة كمن يقوم بعادة روتينية، لم تمش به خطواته كثيرًا ليقف أمام شاهد قبر لا يختلف عن جيرانه سوى بعقد من شماغ أحمر حول قمة شاهده الأيمن، جلس أمامه دون حراك.. قال يحدث نفسه: كثير ما نشعر به يا صديقي عند الفوات، وقاسٍ ما أعانيه من شتات، ما زلت بعدك جاثيًا عن عيشي، مضربًا عن استمتاعي بما أملكه، باتت كل الألوان حولي رمادية بعدك، انظر إليّ.. آتي لهذا المكان، وأبحث يائسًا عن حياة.. أي بائس أنا..

تحشرج صوته بينما يردد: أي بائس أنا… وانسابت دموعه بعد طول امتناع، ليحجب رأسه بين ركبتيه ويستمع الكون لنشيجه المكتوم، انتابته حالة من الهدوء، وظل على حاله مغمضًا عينيه، وكان عقله مجهدًا كبدنه، فاستسلم لغفوة خفيفة، ترائى له فيها نافذة أمام عينيه، أطل منها وجه يعرفه جيدًا، ثم ابتسم، وأشار بحاجبيه كتحيتهما المعتادة، لكثرة ما يلتقيان وقلة ما يفترقان، “خذني معك” قالها بكل الصدق والأسف، لتنفرج ثنايا من يخاطبه فيرد:ليس بعد..
“إذن متى؟
” أجابه:تبقت ستة أشهر.
استيقظ من اغفاءته على صوت يجهله، قام مرتعبًا يلتفت حوله كأنما حمل دون إرادته لهذا المكان، وعاد أدراجه ليقود سيارته عائدًا لمنزله، استلقى على فراشه ساهم البال، ثم تذكر التقويم الذي أهداه إليه زميله في العمل، وقلب صفحاته باحثًا عن تاريخ اليوم، ثم مزق الصفحات التي تلي الستة أشهر، وكأنما أصبحت الصفحات المتبقية هي الأيام التي سيعيشها، تميز التقويم بعبارات في أسفل كل صفحة، بدأ يقرأ كل يوم عبارته، ويستقي منها فكرة لقضاء يومه، “كل مرّ سيمر”، “النسيان نعمة”، تجول بين العبارات الإيجابية والشواهد الشعرية، وكانت تلهمه الكثير من الأسئلة التي حاول الإجابة عليها، فنجح وفشل، حتى قام يوما ليطوي صفحة التقويم ليجدها كانت الأخيرة، واستقرت في أسفلها عبارة: “من جد وجد”، تذكر حين قرأها لأول مرة على جدار مدرسته الابتدائية، وكيف كان يمقت تلك اللحظة التي كان فيها يغادر فراشه الوثير وسط زجر والدته واستعجال والده، فكره ما يذكره بما يحاول تناسيه، تسائل: ما الذي جعلني أفعل كل هذا بالمناسبة؟ مزق الصفحة الأخيرة ورمى التقويم في سلة مهملاته، وخرج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com