
كَما لَا يَخلُو عَقدٌ الّلؤلؤِ مِن حَبّاتِه، قَلّمَا يَخلُو طَرِيقُ “صالح” فِي سَاعَةِ الظّهِيْرَة عَائدًا مِن عَمله من ازدِحَامِ السَّيارات، اعتاد ذلك.. لِدرجة تَحمِلُه عَلى تَصَفّحِ أَفكارِه بين الفَيْنَةِ وَالأخرَى، يَنسَاقُ خَلفَ موقفٍ أو صُورةٍ لدرجة تَحمِلُ من خَلفَهُ على ضَغْطِ مُنبه سيارته، ينظر من المرآة الخلفّية ليَقرأ في شَفَتِي هذا المُستَاء استنكاره الشديد، لِدرَجة تُصَوِّر الثواني باعتبارها سَاعَات، يُطرق باتجاه خط السير بَينما يَشعُر بِعَدم الاكتراث، فَهُو وإن غَفل للحظات.. لن يؤثر في انسداد شريان الطريق الذي وُجد ليزدحم في هذه الساعة، تشاغل عن تذكر نظرة عيني ذلك الرجل، التي بَدَت ضعيفة رُغم تقطيبه لحاجِبيه، وَجريَان لِسَانه بين شفتيه كأنما بذلك يستطيع إزاحة الثقل الجاثم على جَسدِه وعقله معًا، ابتسم بينما يتذكر مقولة عمّه حينَ أخبره وقت تعلّمه القيادة: “إذا خرجت للطريق، فتخيل أنك اليقظ الوحيد بين كل السائقين الثملين”، سُرعان ما توطدت علاقته بهذه النصيحة، لدرجة أن يكون دائمًا مَن يَعتذر، يركز بعينيه حول شفتي من ينظر إليه، ثم يبتسم إليه ببطء لعله لا يعرف طريقة الابتسام، لعلّ جُمود ملامِحه يذوب، لعله.. قاطعه صوت ارتطامه بالسيارة التي أمامه.
لَن يَفزَع.. وإن فزِع؛ سيطبق تلك النصيحة، سَارعَ لرَسم ابتسَامَته حين التقت عيناه بمن أمامه، بدا أنها لسوء الحظ لم تفلح، لم يَبتسم إليه ذلك السائق، بل أعرضَ عَنهُ لينظر نحو الإنارة الخلفية التي انكسر جانب منها جراء هذا الحادث، أوقف حيلة تبسمه لينزل مواجهًا أمرًا لا تحله هذه المرة تلك النصيحة.
سرح “صالح” بنظره في مقدمة سيارته التي بدت كما نظر إليها صباحًا، لم تخسر مِن صَفاء بشرتها إلا ما علق بشفتيها من حُمرَةِ شفتي من قبّلته، مدّ يده يمسح شفتيها كأنما يخبر صديقًا أنه أسرف في الزهو بعلاقةٍ جسديةٍ لِدرجةٍ تَغشَى عَلى حَذِرِه.
قاطعه صوت: “ألا ترى؟ ماذَا شَرِبتْ؟” انهمك يحاول تذكر ما شربه لهذا اليوم: كوب قهوة، قطعة معمول سبقتها لكنه لا يحتاج لذكرها بما أن السؤال محدد بما شربه لا بما أكل.
قاطعه ذاتُ الصوت مرة أخرى: “يالحبيب” عاد بنظره إلى من يخاطبه ليتذكر كيف أن الحبيب من شفتيه بدت كالسرج الذي ربط على بقرة.. “آسف” رد عليه بينما يحاول الهرب من لمعة عينيه الحائرة، لعله لا يدري ما يتوجب عليه فعله، قاطعه صوت منبه السيارات خلفه، وقد بدا له أن يعود إلى فَلكِ الهُدوءِ الذي حنّ إليه فجأة، مهما تطلب الأمر..
قاطعه صوت الرجل مجددًا: “أمعك تأمين؟” التفت إليه بينما يتذكر تلك الساعات الثلاث التي قضاها ينتظر في آخر حادث مر به، فرد بانفعال: “لا، معي تأمين..” انهمر صوت منبهات السيارات دفعة واحدة لإجبارِه على معرفة ما يريده بوضوح؛ “الخروج من هذا الضغط مهما كلف الأمر”.
أشار إلى الرّجل أن يَتقَدّم نَحوَ المخرَج، وقَف الرجل بِجُمُودِ المتَوجِّس، عَادت أصوات المنبهات مجددًا تَرفُض ردّة فِعلِه، أشار إليه أَحَدُهُم بحزمٍ أن يتقدم نحو المخرج، سرعان ما كان يقف الاثنانُ خلف بَعضِهمَا مرّة أخرى باتزان هذه المرة.
نزل الرجل مجددًا ليتجه إلى “صالح”، ويَنهَمِك فِي شَرح تَكاليفِ الإصلاح، سَرح “صالح” في عَينيه بَينَما يَتحَدّث، كانَت لامِعَةً بحزن، متسعة بتركيز، تطرف بسرعة كأنما يحاول استحضار كل صور الفواتير التي يستطيع تسميتها، وتحديد تكاليفها، بدا مزعجًا، كالذباب الذي لا يكف عن الدوران مغنيًا – حسب منظور الذباب-، “حسنًا، لك ما تريد”، دفع إليه المبلغ الذي انتهت إليه حساباته، وراقبه بينما يبتعد، تلفت ليراقب انسداد الطريق ينفرج على عجل، وبدا بأن كل شيء يسامحه، وأن العالم يتناغم مع حاجته للهدوء، فلا يكترث أن يسدل المقعد إلى الخلف ويغمض عينيه باحثًا عما تبعثر من تخيلاته.