منتدى القصة

مجرّد سؤال

قضى معاذٌ يومًا يُضَافُ للذِّكريَاتِ الجَمِيْلة، والأماني التّي تَحَقّقت، لقاءُ مَن يُحِب، والأنس بأحاديثه، مرت سَاعَاتُ المَسَاءِ سِراعًا كَأنَّما يُريدُ الوَقت أن يَعبرَ سريعًا وخُفية وَسط انشِغَالِه بسَعَادتِه، ودّع مُضيّفَه وَعينيهِ تتوهّجُ بالرِّضا، هالة من السعادة كَانَت تُضِيء حَوله، بالإضَافَةِ لاضطِرَابِ حَدِيثهِ بين الضحك المتكرر الذي لا يعبر عن سبب بقدرِ مَا يَصِفُ شُعُورًا غَامِرًا، عَادَ للفُندِقِ الذي يَسْكُنُه، وحتمًا.. لقد نام بشكل عميق.
كَانَت تِلك الليلة ليلته الأخيرة فِي سَفَرِه للسِّيَاحة، لذلك استيقظ وهُو يَشعرُ بَأنّهُ قَد نَال حظّهُ مِن التَّرفِيه وزيادة، الآنَ يَستطِيْع إنجَازَ كلّ الأعمالِ الوَاجِبَة والمستحبّة والمَكرُوهَة وحتّى المباحَة، بَل سَيقفزُ عَلى قَائِمَة أعمَالِ الآخَرِين ويُنجِزُها بدلاً عَنهم، فَقَد نَالَ استراحةً تَكفِي لِقَضَاءِ أُسبوعٍ مُتَوَاصلٍ مِن العَمَل دون شعورٍ بالإرهَاقِ أو الاحترَاق، رَفَعَ سمّاعَةَ الاتّصَال بِخِدْمَةِ الغُرَف ليخبرهم عن موعد خُروجِه لتجهيز اجراءات ذلك، ثم وَلجَ إلى مُستَحمّه، انْهَمَر الماءُ خَلْفَ سِتَارٍ رَقيق، يَسمَحُ بِرؤية جَسده المُتراقِص خَلف بُخار الماء الذي بَات يتصاعد، إنّه يستحم ويغني، يُحاولُ تَطبيقَ ما تعلّمه من رَقصاتٍ على أنغَام دَندَنَتِه، فَلا أحد يُمكنه مُشَاهَدُته وَاعتبارُ ما يَفعله تشويهًا للمنظر العام، ودعوةً لتجريم الغناءِ والرّقص، واستِذكار عنترة والمُثنّى مرورًا بأزمة الهويّةِ والنار التي أورثت رمادًا.
خَرج بينما يَختَتِمُ جُملتهُ الغنائية التّي يَحفَظُهَا، أكمَل مَا نَسِيَهُ بِدَنْدَنَةٍ مَكتُومة بينما يَختار آخر ملابِسِه النّظيفة، كانَت قَمِيصًا أحمَر، لَم يَكنْ يُعجِبه لِدرجَة ألّا يختَار ارتدائه إلا حين لم يبق سِواه.. ارتداه بَيْنَما يتناهى لسمعه طَرقُ خِدمَة الغُرَف لِحمل حقائِبه، سُرعان ما انتهى مِن إجراءاتِ خُروجِه التّي لَم تَخلُ مِن مُزاحِه مع الموظّف الذي شَعَرَ بالعَدوى مِن ابتسَامَتِه بينما يتذكر من جاء قبله واجمًا حادًا ويَشعر بالجبر بعد الكسر والرضا بعد امتعاض، جاهد ملامحه لإخفاء ذلك.. حتى جاء الفرج بحضور ذلك الباسم الذي يرتدي الأحمَر..
انهمك “معاذ” يشرح للموظّف ضَرُورَة أن يَكُونَ الإنسانُ محضرًا للخير، ويأخُذَ الحَيَاةَ بِبَسَاطة، يَنفَتِح على الآخرين.. يَبتسم إليهم، ردّ عليه الموظّف بَينَمَا تعلقت عينُه بالشاشة أمَامَه “صحيح، ليتَ كلّ النّاس مِثلك”، كان حديث معاذ لم ينته بعد، إنه يريد قول المزيد، فهُو يَفِيْضُ حبًا وسَعَادة، ورضًا وزيادَة، يُعامِل شُعوره هذا كأنما هي قضية تمس أمْنَ المجتمع، يَجِب أن يعلم كل من أصادفهم أني سعيد وأن هذا يعبر عما يجب أن يكونوا عليه، سأحاول اقناع من يعجز عنه اللسان والبيان، فتش في جيبه ليجد أوراقًا نقدية، كل من يعجز عن إضحاك ثغره بلسانه سيمد إليه المال، جابر الخواطر ومزين الأحوال، هكذا ستبدو كل المحاولات التي ستواجهُ حِنكَته؛ مضمونة النتائج، ما أجمل الصدقة المعنوية والمادية إن جاءتا معًا، إن مقدار السعادة الزائد قد وجد ليوزعه حول من يراهم، كثيرة هذه البهجة على قلبه الصغير الذي لا يحتمل.
خرج بسيارته من موقف الفندق، فتّشَ في هاتفه المقترن بسيّارته عن أغنيَةٍ مُبهِجَة، تلفّت يَبحثُ عن مسارِ جَولتِه الأخيرة للوداعِ قبل رحيلِه، لا شيءَ في المدن الساحليةِ أجملُ مِنَ الجلوس على البَحْر، هُناكَ يَرتِشِفُ قهوته بينما يخبر البحر عن سرّ سَعَادَتِه، ومَدَى رضَاه، مظلومٌ هَذا البَحر، ما زال الناس يلقون إليه أوجاعهم حتى استشاط غضبًا، وضاق بما فيه ذرعًا، ها هو يعبر عن انزعاجه بضرب الصخور مرة بعد أخرى، استمع إليه بينما يحاول هَدهَدة نوبته بانتباه كامل.
لم يمنع معاذ نفسه أيضًا مِن لذّة إغماض عينيه وفرد جنَاحِيه، كأنما يوشك على إسكات البحر بعناقْ كمَن يُسكِتُ حَسناءَ حِينَ يُقاطع كلماتها بِقُبلَة، سمع حركة بجوارِه.. التفت ليَرى أمام عينيهِ شَخصًا كان يراقبه بصمت، ابتسم إليه بينما يسحب يده الممدودة ليلوح إليه بحرج، ردّ عليهِ الرجل بابتسامة مشابهة، مُريبَة شعَر بهَا مُعاذ، تَجاهَلَ ذلكِ.. تَقارَبَ الاثنان، ودَار بَينَهُمَا حديثٌ ودّي مفعم بدَهشَةِ الجَدِيد، ولذّةِ اكتشافِ الغُرَباءِ والتوَدُّد إليهم، كَان الرّجُلُ خَفِيفَ الظِّلّ، سُرعَان ما نَجَح في تَفتِيتِ رِيبَة معاذَ مِنه، وبَادَرَ بطَلَبَ رَقم هاتِفِه، قِبِل ذلك برحبٍ وسَعَة كَعادَتِه حِينَ يَكونُ سَعِيدًا، وفكّر بَينَما يُلوّح للرّجُلِ مُبتَعِدًا “ما أجمل الغرباء وألطف البشر”؛ عاد لسيارته وانهمَك يُفَتِّشِ في هَاتِفِه عَن طريق العودة، قام بتثبيت الهاتف، أدار المِقودَ تجاه الطّرِيق السَّرِيع، هنا.. لمَحَت عَينُهُ رِسَالةً مِن رَقمٍ لا يَعرِفه، ألقى بسؤال اتسعت له عينا معاذ مستنكرة، بَهُتَتْ ضِحكَتُه، وتَجهّمت ملامِحُه، انفقئت فجأة.. فقاعة النقاء التي كانَ يَسكنُها..

عبدالله الصليح

قاص - كاتب صحفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى