منتدى القصة

الممر

سكت اندفاع الماء البارد عن ضرب جسده، اندفاعه القوي المنعش، يكاد يغسل حتى سمعته، التي لطخها انفراده وانعزاله، الناس يحبون استعراض معرفتهم بالخفايا، تغريهم فكرة الاستفهام والغموض، يفردون لها عضلات تبريرهم بل يطلقون أحكامهم، ثم ينشغلون بالقلق عليه، رغم أنه سيلاحظ تناقضهم لو سمع أحكامهم، لكن.. لعل الفراغ الجاثم على حياتهم يمتلئ بهذا القلق الفارغ.
ارتدى منشفته بينما أسهمت برودة الماء الذي اختتم به استحمامه في ألا يشعر ببرودة الهواء بينما يسير إلى غرفته، أطفأ إنارة الممر -دون أن يلتفت-، إشارة لنهاية يوم آخر من أيام الركض الحياتية، وقف أمام المرآة يتأمل وجهًا لا يكف عن الابتسام إلا لهذه المرآة، انعكاس وجهه فيها هو أكثر حالات ملامحه صدقًا وشفافية، لذلك تجهل صورة ابتسامته مقارنة بجمود ملامحه ولمعة عينه وجعًا.
نظر لهاتفه؛ لا زالت الساعة مبكرة على نومه، لكن لا شيء آخر يفعله، ساعة المشي الليلية لا تليق ببرودة الجو، والتصفح في هاتفه لم يعد ذا أهمية، انطفئ في يده بينما يضعه على سريره ويمشي ليضع المنشفة في سلة الغسيل، فجأة.. زلت قدمه بفعل قطرات على الأرضية، سقط ليضرب رأسه الأرض بينما كان يحاول بارتباك رفع المنشفة، كأنه نسي حاجتها للغسيل مسبقًا، كانت الضربة قوية لدرجة الدوار، لم يتحرك.. بقي يحاول تثبيت الصور التي كانت تتأرجح أمام عينيه المتسعة تركيزًا، أغمض عينيه، حاول تحريك يديه، بدا أنها لا تستطيع فهم ما يعنيه، فتح عينيه ليجد الظلام الحالك يعيق رؤيته، تلفت ليجد إنارة الشارع من النافذة تخبره أن كل شيء بخير، رغم الألم الذي غطى جسده، استطاع النهوض بينما يأن في كل خطوة، ترك المنشفة مرمية على الأرض خلفه، عاد إلى فراشه محاولاً إغماض عينيه دون أن ترتعش كبقية أطراف جسده، بدا أن قلبه لن يكف عن التسارع قريبًا..
سحب نفسًا عميقًا، تلته زفرة تكفي حرارتها لإيقاد شمعة، تذوب من ثقل الثواني، تتشكل دموعًا على وحدته، وشعورًا بما يعتري أسفل ظهره من ألم، ورثاء لدموع هجرت عينيه؛ منذ نفذت مناديله، واستمر ينساها كلما كان يطوف بأرفف المتاجر.
لمح كيس مشترياته بجواره، نسي أنه لم ينس شراء عشاءه، انهمك يأكل بنهم، لم يرق ذلك لقطعة من الخبز كانت تحلم بأن تمضغ برقة وهدوء كبقية قريناتها، عبّرت عن سخطها بتوقفها في مجرى حلقه، تمردت وثارت لما تراه من حقها، اتسعت عيناه اختناقًا، قام فزعًا.. يُسمع في الممر ارتجاعه لما في معدته، خرج برجفة في خطواته، عاد إلى فراشه متجاهلاً هذه المرة؛ منبه استيقاظه ليوم راكض آخر، ونام ملء بؤسه.

عبدالله الصليح

قاص - كاتب صحفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى