المقالات

مفاهيم إعجازيّة (٢)

البيان القاهر والبيان الباهر

مما يلفت في لغة عبد القاهر التي يصف بها البيان القرآني أنها لغة مجازية تحيل إما على ما يقهر، أو ما يبهر، وكلا اللفظين يردان في السياق الإعجازي، فهل بينهما فرق في الدلالة؟ وإذا كان بينهما فرق فما هو؟ وعلى أي وجه يمكن فهمه؟
الذي يبدو للنظر في بداية الأمر أنهما متقاربان إلى الحد الذي يجعلهما دالّين على العجز عن الإتيان بمثل القرآن، غير أنه من الممكن رغم التقارب الدلالي الخروج بفارق مهم في الإعجاز البياني، بحيث يكون للنظر في البيان مساران:
١- البيان القاهر: وهو موضع العجز، وهذا المسار ليس في وسع أحد أن يبلغ سقفه مهما احتشد له، لأن افتراض بلوغه يلزم منه القدرة على إنتاجه أو على الاقتراب من حماه، وهو الذي تنقطع دونه الأطماع لارتباطه بالتحدّي، وتشير إليه الآية الكريمة{قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}[الإسراء: ٨٨]َ، كما تشير إليه آيات التحدّي الأخرى في التنزّل من السور العشر إلى السورة الواحدة.
٢- البيان الباهر: وفي هذا المسار يمكن السير في أفق القرآن واستلهامه والوقوف عند آياته وتثويرها، كما أوصى بذلك ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا الباب هو موضع الانتقال من الإعجاز إلى الإنجاز، أي من موضع استواء الأقدام في العجز، بحسب وصف عبد القاهر، إلى موضع الانغمار بالقرآن، أو من موضع التخلّي إلى موضع التجلّي.
وأحسب أن هذين المسارين قد وردا في قولين لعبد القاهر وهو يعالج بهما نظرية الإعجاز، ففيما يخصّ البيان القاهر قال:
“وكذلك يفضل بعض الكلام بعضا، ويتقدم منه الشيء الشيء، ثم يزداد فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة ويعلو مرقبا بعد مرقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسَرُ الظنون وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز”.[ دلائل الإعجاز: ص٣٥].
أما في البيان الباهر فقال:
“وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، وعشرا عشرا، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة ينكر شانها، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتساقا بهر العقول وأعجز الجمهور”.[دلائل الإعجاز: ص٣٩].
وهذا يؤكد أن النظر في الإعجاز البياني ليس مقصورا على فكرة التحدّي والقهر، لأن هذا جانب من جوانبه فحسب، والجانب الآخر يتمثّل في النظر في البيان الباهر اتساقا وجمالا، وهو الموضع الذي ينفتح للتأمل والترقّي في مدارج القرآن: سورة سورة، وعشرا عشرا، وآية آية.
ولئن كان النصّان معا يشيران إلى الأفق الإعجازي، إلا أن الطريق الأوّل هو الموازنة للوقوف على ما أعجز العرب والوصول إلى حالة تنقطع عندها الأطماع وتحسر الظنون، أما الطريق الثاني فهو النظر في البيان القرآني دون الحاجة إلى مقارنته ببيان آخر، أي التدبّر والتفكّر فيه وهذا من شأنه أن يفتح للناظر آفاقا جديدة في بناء القرآن سورة سورة، وعشرا عشرا، وآية آية.
وفي نظري أن إعادة النظر في المسار الثاني، البيان الباهر، من منظور الإنجاز ، لا منظور الإعجاز، هو ما يتيح لنا السفر في هذا الكون الفسيح من خلال مدارج آياته التي هي مناط النظر ومنطلق الترقّي.
وفي هذا السياق يحضر ما لفت إليه محمود شاكر حول مصطلح الإعجاز الذي نتج عن موقف مركّب في حوار وجدل أهل الكلام ما جعلهم ينتقلون من مفهوم إلى آخر، من مفهوم الآية إلى مفهوم المعجزة، باعتبار شرط الآية المرتبط بعجز الخليقة، وهذا الارتباط يحيل على البيان القاهر، لا البيان الباهر، وبينهما فرق، فالأول منظور فيه إلى العجز، أو بتعبير شاكر إلى الإبلاس،مع ما بين العجز والإبلاس من فارق في الدلالة.
أما البيان الباهر فمنظور فيه إلى الاتّساق والروعة والجمال، فالشيء الذي يبهرك يتيح لك التجلّي لأنّه يغمرك به، كما يغمر القمر الأشياء بنوره، أما الذي يقهرك فليس لك حياله سوى التخلّي، وهذه هي فكرة الانتقال من مسار الإعجاز إلى مسار الإنجاز، ومن البيان القاهر إلى البيان الباهر، ومن التخلّي إلى التجلّي، ومحصولها في النهاية هو هذا البيان القرآني الفريد.
ويمكن في هذا السياق وضع خطاطة لمسارين تجمع بين ما يقهر وما يبهر، تأتي على النحو الآتي:
مسار التحدّي مسار التجلّي
معجزة آية
إعجاز إنجاز
بيان قاهر بيان باهر
وبذلك يظهر أن مسار الإعجاز يختلف عن مسار الإنجاز من جهة التلقّي، فالمخاطب بالمسار الإعجازي في مقام إنكار والقرآن يتحدّاه لقهره وإثبات عجزه، أما المخاطب في المسار الإنجازي ففي مقام انبهار، والقرآن يفتح له آفاق الكون لتتجلّى له الآيات البيّنات بعد أن آمن بها، فمقامه مقام التجلّي لا مقام التحدّي، وهو معنيّ بالبيان الباهر المتسق جلالا وجمالا، لا البيان القاهر المعجز بيانا وكمالا.
وعلى هذا يمكن من خلال هذين المسارين إعادة النظر في بناء الأفق البياني للقرآن الكريم، وتعزيز المسار الإنجازي لفتح آفاق جديدة من منظور الآيات البينات التي ترتقي بتاليها ومتدبّرها إلى أعلى المدارج والمعارج، وقد أتيح لي أن أدرس، في بحث علميّ نُشرَ في مجلة اللغة العربية وآدابها بالجامعة الإسلامية (التذييل البلاغي في الفاصلة القرآنية عند طه عبد الرحمن، منظور تأويلي جديد)، فخرجت بنتائج من أبرزها أن مصطلح الآية يتيح للناظر في القرآن أن يسبر الدلالات البيانية من منظور جديد هو المنظور الملكوتي الذي يصل به إلى أسرار ودقائق ولطائف تعززها الفاصلة القرآنية في امتدادها عبر السياق، وكان مما وقفت عليه فاصلة مطلع سورة الإسراء، حيث بدا لي من خلال المنظور الملكوتي أن الفاصلة إذ ختمت بالسميع البصير، فلتشير إلى ما بلغه النبي عليه الصلاة والسلام في ترقّيه وتجلّيه حتى صار سميعا بصيرا، فسمع كأكمل ما يكون السماع وأبصر كأكمل ما يكون البصر، حين تجلت له الحقائق في رحلة الإسراء والمعراج، وقد أشار ابن عاشور إلى أن الضمير في قوله تعالى:{إنّه هو السميع البصير}[ الإسراء: ١]، يعود إلى الله، ويجوز أن يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، مستندا إلى قاعدة من قواعده العشر في التفسير وهي (تكثير المعاني) في القرآن الكريم، أي إمكان أن يراد بالضمير الأمران، فيرجع أصالة إلى الله سبحانه فهو (السميع البصير)، ويرجع في سياق التكريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون(سميعا بصيرا) ، وهذا ما تعززه سورة الإنسان في مطلعها:{ إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه؛ فجعلناه سميعا بصيرا} [الإنسان: ٢].
وبذلك يظهر أن مصطلح (آية) في القرآن مصطلح سخي في دلالاته ويمكن من خلاله فتح مسار جديد في سياق إعجاز القرآن، بشرط أن يتجاوز الدارس سياق التحدي إلى سياق التجلي، والإعجاز إلى الإنجاز، والبيان القاهر إلى البيان الباهر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com