المقالات

الموسيقى لُغة بلا شرح وبلا هوامش

مثلما لكل جنس من الكائنات التي خلقها الله تعالى، لغة تتواصل بها، وتتفاهم فيما بينها، فإن لكل فنٍّ لغة يتحدث بها ويبث أفكاره ومعانيه ومفرداته إلى مريديه. غير أن هذه اللغة ليست متاحة لأن يفهمها الجميع، بل يستوعبها فقط من تتلمذوا في مدرسته وظلوا في محرابه لسنوات حتى يغدق عليهم من أسراره ونفحاته، ويفك لهم شفرته، ويُمكّنهم من التماهي معه والانجذاب إليه، وكذلك التحليق في فضاءاته التي لا حصر لها. وإذا كان ثمة تسليم بأن بعض الفنون لا يمكن للجميع أن يتعاطى معها مدركاً مغزاها وفحواها، ولا يتمكن من سبْر أغوارها سوى نخبة معينة، امتلكت مفاتيح مدينتها، فإن ثمة تسليم بأن الموسيقى فنٌّ يَسْهُلُ على كثيرين فكُّ رموزه والتواصل الفعال معه، في الوقت الذي قد يجد هؤلاء صعوبة في التعامل مع فنون أخرى كالأدب أو الفنون التشكيلية، خاصة في مراحلها الـ ما بعد حداثية. وفي هذا الصدد أذكر مقالاً بديعاً للفنان الراحل رمسيس يونان سمَّاه المعنى في الفن، يقول فيه إن لكل فن لغة خاصة لا ينطق إلا بها، ويستحيل في غالب الأحيان ترجمتها إلى أية لغة أخرى من غير جنسها. ولذلك إن لم نعرف هذه اللغة معرفة صميمة، ونقف على دقائقها وأسرارها، استعصى علينا أن ندرك معانيها، مهما بلغ علمنا بلغات الأدب أو بلغات الفنون الأخرى. كذلك يرى يونان أن لغة الموسيقى ليست هي لغة الأدب أو لغة النحت مثلاً. غير أن ما يغفله الكثيرون هو أن لغة التصوير أو لغة النحت ليست هي كذلك من جنس لغة الكلام أو لغة الأدب. ولذلك يتعذر ترجمة معانيها إلى إحدى هاتين اللغتين. هذا ويقارن يونان بين الأديب وبين المصور الفنان، فربما يحدثنا الأول عن الأشكال والألوان والأضواء والظلال في منظر ما يشاهده، أو قد يصف لنا وقع هذه الأشياء في نفسه وما تثيره في ذهنه من خواطر وفي قلبه من عواطف. أما المصور الفنان فلا يصف الأشكال والألوان والظلال والأضواء وإنما يتخذها أداةً للتعبير عن وجدانه. والفارق بين الاثنين كما يرى يونان هو كالفارق بين التعبير الموسيقيّ بواسطة الأنغام، والحديث عن الأصوات أو وصفها أو التعليق عليها. أيضًا يرى يونان أنه إذا كان من المستحيل ترجمة لغة الموسيقى أو لغة التصوير أو لغة النحت إلى لغة الأدب، فلا يدل هذا على أن هذه اللغات تخلو من ” المعنى “، وإنما يدل على أن المعاني التي تعبّر عنها هذه اللغات ليست من نوع المعاني التي تصلح الألفاظ للتعبير عنها. من هنا يمكننا أن نقول إن لغة الموسيقى ليست بحاجة إلى أن تُترجم إلى لغة أخرى، لأنها لغة عامة وواضحة، ومن اليسير أن يفهمها الجميع، وأن يطرب لها وبها القاصي والداني. إنها اللغة التي لا تحتاج لا إلى شرح ولا إلى هوامش تكشف غموض مَتْنها.
حقاً إنها لغة الموسيقى ، وكفى بها لغة يتجمع على موائدها كثيرون، وإن اختلفت ألسنتهم وثقافاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com