المقالات

طقوس مكية في رمضان زمان

كانت سوق السويقة التي كانت في محيط الحرم ولها ممرات لأبوابه الرئيسية، تكون فيها الحركة غير عادية ليلة ترائي هلال رمضان، والناس في ترقب لسماع خبر ثبوت الرؤية من عدمه، ويسمع صوت هنا وصوت هناك تفسيرات وتأويلات تمام الشهر أو بدء الصيام، ويخشى أن يأتي خبر الرؤية متأخرًا ويرتبك الناس، ويقول أحدهم: “حدث في أحد الأعوام الماضية أن استيقظ الناس كعادتهم مفطرين، فجاء رجال الحُسبَة ومعهم رجال من الشرطة ليغلقوا المقاهي ومحلات الأكل والشرب، محذرين منادين أنه ثبت متأخرًا أن اليوم رمضان)، كان العُذر في تأخير الإعلان عن ثبوت الرؤية، صعوبة الاتصالات والمواصلات.
وحين يتم ثبوت رؤية الهلال تنطلق أصوات مدافع دخول الشهر التي ترتج لها جبال مكة، ويقبل الناس على تهاني بعضهم البعض بدخول الشهر المبارك؛ سائلين الله أن يكون شهرًا مباركًا على الجميع، ولا تهدأ حركة السوق ولا يغلق التجار محلاتهم إلا في وقت متأخر قليلًا ليس كبقية أيام الشهر؛ حيث يمتد السهر حتى ما بعد السحر.
في البيوت تكون الحركة فيها لها زخم ورائحة تليق بروحانية الشهر وفرحة استقبال رمضان، سيدات البيوت في حركة دؤوبة للاطمئنان على الترتيبات، وقد تم وضع الغيارات لبيوت المساند والمِخَدات و”الطواويل” وبسط الجلايل الجديدة، وأهم شيء نَصبةُ الشاهي وترتيباتها خاصة (فنجان أبونا الذي لا يغيره بملعقـته المغموسة في العنبر)، وفناجين المسكوفي وخلطة الشاي أبو جبل، والبن المحوق وكنكة، والسبرتاية القهوة.
الأم “سيدة البيت” في تلك الليلة وكل ليلة طوال شهر رمضان تحمل هموم الجميع وتهتم بالصغيرة قبل الكبيرة، بقلب حار وبلهفة وقلق الذي يخشى من التقصير والتأخير، وتقوم دون كلل أو ملل بواجبات تثقل كاهل القوي فما بالك بالضعيف، حرصًا على أن كل شيء وفق ما تود أن يكون، لا يوجد شيء ناقص! ولا أمرًا، مهما قل شأنه من الضروريات قد نُسي، لذلك لا يغيب صوتها في قلق وخوف، وهي توجه بناتها وخادمتها لواجباتهن تلك الليلة، ومن تعبها تنام وهي جالسة!!
سُفَر الإفطار في المسجد الحرام لها تاريخها القديم، فباعتبار أن غالبية بيوت الأسر المكية كانت تحيط بالحرم من جوانبه الأربعة، فقد اعتاد رجال مكة المجاورين للبيت الحرام تناول إفطارهم المكون من التمر والفاكهة والسنبوسك والجُبنية -إن وُجدت-، في أروقة المسجد القريبة من بيوتهم، فمما كان في عاداتهم، كمجاورين لبيته الحرام، الطواف بالبيت قبل المغرب بوقتٍ كافٍ وقراءة القرآن في الرواق قبل الإفطار.
لرمضان في عصرية كل يوم رائحة مميزة، لا زال جيلنا يتذكرها حتى الآن، هي مزيج بين ما يُطبخ وما تفوح منه روائح بخور المِستَكى الذي تُبخر به شِراب وكأسات الماء، في الوقت الذي تبدأ فيه حركة البيع لما يُعرض في السوق الصغير من مأكولات رمضانية وأنواع مختلفة من العيش، وما تشتهيه نفوس الصائمين في أوج ازدحامها، ولا يخرجون من السوق إلا وقد حملوا منها ما لذ وطاب.
وفي المساء وبعد انتهاء صلاة التراويح، تنتصب في الحواري بسطات البليلة والفول والترمس والمقلية والكبدة، في الوقت الذي يملأ الأطفال كل ركن وزاوية فيها، وقد بدأوا اللعب بألعابهم الشعبية (البِربِر) و(السُقيطة) و(الغُميضة)، ومنها من كان يُشعل (الطراطيع) ويهرب.
ما أجمل تلك الطقوس التي نسعد باستعادة الذاكرة لها ونحن في هذه الأيام. التي تغير فيها الزمن وتغيرت الطقوس والنفوس، في عصر تغير فيه كل شيء، سواء في بساطة الحياة ومعايشة الناس فيها، وما في هذا الزمن من تعقيدات ومستجدات، باعدت بين الناس وغيَّرت طبائعهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى