منتدى القصة

عم سعيد

حكاية

عشرون عامًا أمضاها في خدمة المؤسسة التي يعمل بها فراشًا، يُنظف مكاتبها وقهوجيًا يعد الشاي والقهوة للموظفين، ويوزعها عليهم بإحكام منظم.. ومراسلًا ينقل البريد والأوراق بين الأقسام.. وبعد صلاة الظهر يغادرها ليودع ما يرد إليها من نقود وشيكات في البنك.. ثم يذهب للبريد المركزي ليأتي بما يجده من رسائل هامة للمؤسسة.. ليعود إليها بعد ذلك ليكون آخر من يغادرها في الساعة الخامسه مساءً.. كان راضيًا كل الرضا بعمله؛ خصوصًا أن صاحبها كان يعامله معاملة حسنة ويحنو عليه ويمنحه الأعطيات والهدايا له ولأسرته في الأعياد والمناسبات المختلفة، ويدعوه في أحيانٍ كثيرة لتناول الطعام معه في منزله.. وإن كانت شخصيته لا تخلو من الحزم في العمل والإدارة.. ولكن الحال تغيَّر بعد أن توفي صاحب المؤسسة وتولى ابنه الأصغر زمام الأمور.. كان شابًا حذقًا جم النشاط كثير الطموح، تلقى تعليمًا عاليًا خارج المملكة.. في صباح أحد الأيام استدعاه سكرتير الإدارة لمقابلة خاصة مع المدير العام.. وكم كانت دهشته حين وجد في المكتب مدير الموظفين والمدير المالي وهما مثله من قدامى الموظفين في المؤسسة.. حياهما وجلس على طرف المقعد الذي أمامهما، وقد انتابه شيء من الفضول لمعرفة المسألة الهامة التي تستدعي حضوره لهذا الاجتماع.. فيما بدا على الرجلين شيء من القلق.. قال في نفسه ربما يكون هناك علاوة مالية خاصة به أو لعلها شكوى من تقصير صدر عنه دون أن يدري.. ولكنه لم يظهر ذلك الشك على ملامحه.. فهو واثق من نفسه؛ خصوصًا وأن سلوكه في العمل طوال سنوات عمله محل رضا من جميع زملائه الموظفين.. .. بدا المدير العام حديثه بلهجة حازمة فور دخوله الاجتماع قائلًا: ياعم سعيد نحن نُقدرك كثيرًا ونحترمك؛ خصوصًا أنك أمضيت في خدمة والدي -رحمه الله- زمنًا طويلًا وقد أوصانا بك كثيرًا، والجميع يشهد لك بالأخلاق الحسنة والتعامل الطيب في عملك، والمواظبة على أداء واجباتك بكل إخلاص.. هزَّ مدير الموظفين والمدير المالي رأسيهما موافقين.. فيما استرسل المدير العام حديثه قائلًا: ولكنني ياعم سعيد وأنا أراجع ملفات الموظفين الذين يعملون معنا وجدت أنك لا تُجيد القراءة والكتابة.. لم يظهر على ملامح العم سعيد أي قلق، وهو يستمع إلى ما يقوله المدير العام بل رد عليه.. بعد لحظة صمت.. يا سيدي .. إن والدكم الكريم -رحمه الله تعالى- كان يعلم أنني لا أجيد القراءة والكتابة حين قبلني للعمل بالمؤسسة.. وكذلك كافة الزملاء يعرفون ذلك..
وهذا الأمر لم يمنعني أن أؤدي عملي بكل يسر وإخلاص، وأردف في ثقة قائلًا: والحقيقة يا سيدي أنني حاولت الالتحاق بالمدارس الابتدائية الليلية لأكمل دراستي بها غير أنني لم أجد الرغبة في ذلك، ولم أشعر بمرور الأيام أنني بحاجة إلى ذلك.. و.. .. قال المدير العام مقاطعًا حديثه بحزم.. ولكن يا عم سعيد الأمر اختلف الآن.
.. ومن الواجب عليك أن تلتحق بإحدى المدارس الليلية لتتعلم القراءة والكتابة.. ساد الغرفة الوجوم للحظات معدودة أحس عم سعيد بشيء من المرارة في حلقه، ولكنه لاذ بالصمت بينما واصل المدير العام حديثه قائلًا: ياعم سعيد نحن نُقدرك كثيرًا ونحترمك؛ فأنت مثال طيب للعاملين من حيث السلوك والانضباط والأداء.. ولكننا لا نستطيع أن نقبل أن يكون لدينا عامل لا يُحسن القراءة والكتابة
.. ثم أردف في لهجة آمرة؛ لذا فإننا نرى ياعم سعيد أن تلتحق بإحدى مدارس الكبار لتدرس وهو أمر ميسور ومتاح للجميع، وبإمكانك أن تنجح بل وتواصل الدراسة لمراحل أخرى.. وأعدك بمكافأة سخية تشجيعًا لك.. و.. ولم يدعه عم سعيد يكمل حديثه بل أجابه بلهجة قاطعة: إنني أعتذر يا سيدي عن تلبية طلبكم فلست في سن يعينني على أن أخوض تجربة الدراسة من جديد، وقد أخفقت في ذلك منذ كنت صبيًا يافعًا.. و.. قال المدير العام في لهجة ودودة: أرجوك أن تفهمني ياعم سعيد.. إننا نرغب في بقائك معنا لذلك سأمنحك فرصة للتفكير في الأمر.. كان عم سعيد قد شعر منذ البداية أن المدير العام يختلف عن أبيه -رحمه الله-.. لذلك رد بحسم.. أشكر حسن ظنك بي يا سيدي ولكنني أعرف أنني لا أستطيع وهذا تقصير مني كبير.. قال المدير العام وهو يقف منهيًا الاجتماع .. أرجو أن تُعيد النظر فيما طلبناه منك.. أو يحسن بك أن تترك العمل.. رد عم سعيد بهدوء نعم ياسيدي.. إنني أشكر كرمكم وسأترك العمل حالما تجدون الشخص المناسب الذي يقوم بعملي.. انتهت المقابلة وغادر المؤسسة بعد نهاية الدوام، وبدأ في تفكير عميق عمَّا يمكن أن يفعله بعد أن يترك العمل في المكان الذي أمضى فيه زهرة شبابه وأحلى أيامه.. سار في طريقه المعتاد إلى منزله موجع القلب كسير الخاطر لا يدري إن كان قد أصاب في تصرفه أم أنه أخطأ وتسرع في قراره.. لم يخطر بباله أنه سيواجه بمثل هذا الموقف .. . ولم يخطط لمثل هذا اليوم.. صحيح أنه سيحصل على راتب من التأمينات الاجتماعية، وصحيح أيضًا أنه ادخر مبلغًا من المال لا بأس خلال عمله طوال السنوات الماضية.. ولكن يظل مبلغًا بسيطًا لن يكفي نفقاته المعيشية هو وأسرته المكونه من زوجته وثلاثة من الأبناء.. لا بد أن يبحث عن عمل يدر عليه دخلًا شهريًا ثابتًا يُساعد في تلبية احتياحات أسرته ونفقاتها المعيشية.. دخل المنزل وعقله كان مشغولًا بالأفكار المتصارعة داخله.. قالت له زوجته وقد لاحظت تجهم وجهه وانشغال باله: خير إن شاء الله يا أبو يونس تبدو مشغولًا ومهمومًا على غير عادتك.. قال لها وهو يخلع ملابسه: لقد تركت العمل في المؤسسة .. قالت له وهي تبتسم: خير إن شاء الله.. الأرزاق بيدالله .. هم الخاسرون وأنت الكسبان.. أنت رجل ما شاء الله عليك عاقل وقادر تفعل الكثير بإذن الله.. ثم أردفت في ثقة إلى متى وأنت تعمل لدى الآخرين.. لقد حان الوقت ليكون لك عملك الخاص حتى لو تبيع الفجل والكراث عند باب المسجد ومثل ما يقولوا تسعة أعشار الرزق في التجارة .. ثم قالت له في حماس.. ما رأيك تفتح محل فول .. ألم تخبرني في مرات سابقة أن أحد أفراد أسرتكم كان فوالًا تضاهي شهرته عم عثمان أمير
الله يرحمه ويغفر له.. قال لها بصوت ساخر عم عثمان الأمير مرة واحدة.. ومن أين نأتي برأس المال يا أم العيال.. صحيح أنني أدخر مبلغًا لا بأس به خلال السنوات الماضية، ولكنه يظل مبلغًا بسيطًا لا يكفي لفتح محل.. ولا تنسي أن ابنتنا على وشك الزواج ونحتاج لكل قرش من أجل.. . قاطعته في تصميم أحبابك كُثر ما راح يقصروا معاك.. ومصاريف زواج البنت تتدبر بأمر الله تعالى.. . ومن ناحيتي خُذ يا سيدي الذهب حقي وبعه وابدأ باسم الله.. الحمد لله الأمور ميسرة ونحن في خير وبركة.. أنس باقي له سنة ويتخرج من الجامعة وعبد الرحمن ناوي يدخل كلية الأمن بعد الثانويه.. والبنت سوف نفرح بزواجها.. وأردفت وهي تمسح على رأسه بحنان قُم يابن الحلال صلِّ المغرب جماعة واذكر ربك واستخيره.. قال لها وعيناه تزغردان فرحًا.. وهو يحضنها بيديه: ما أسعدني بك يا أم الغاليين.. لقد أشرت عليَّ بالمشروع الذي أبحث عنه.. ومن الغد -بإذن الله- سأبدأ البحث عن المحل المناسب.. . ذهب إلى عمله مبكرًا كعادته كل صباح؛ ليجد أن خبر عزمه على الرحيل من المؤسسة قد سبقه إليها، وانتشر بين زملائه الموظفين الذين عبَّر كثير منهم عن أسفهم من مغادرته وعرض عليه بعضهم مساعدته للحصول على عمل مناسب لدى مؤسسات أخرى لهم معرفة بأشخاص يعملون بها.. شكر للجميع اهتمامهم وتعاطفهم، وأخبرهم أنه سيخلد لراحة قصيرة قبل أن يفكر في عمل آخر.. في نهاية الأسبوع استدعاه مدير الموظفين إلى مكتبه؛ ليخبره أن مجموع مستحقاته من مكافأة خدمته بالمؤسسة وبدلات الإجازات بلغت نحو أربعين ألفًا؛ إضافة لعشرة آلاف ريال هدية من المدير العام.. كما أن زملاءه الموظفين قد جمعوا له مبلغ عشرة آلاف ريال أخرى؛ ليصبح إجمالي المبلغ نحو ستين ألفًا يمكن أن يستلمه نقدًا من الخزينة أو يأخذها شيكًا على البنك، واقترح عليه أن يودع المبلغ في البنك وقال له مشجعًا: أنت شخص ممتاز ياعم سعيد وسوف نفتقدك كثيرًا.. وإذا رغبت فيمكنني مساعدتك للحصول على عمل مناسب لدى مؤسسة أخرى.. شكر لمدير الموظفين لطفه وعرضه السخي لمساعدته.. وقال له الحقيقة: إنني أفكر في أن أجرب حظي في عمل تجاري بسيط ولعلي أفتح مطعمًا شعبيًا للفول.. قال له مدير الموظفين: إنها فكرة ممتازة وعمل ناجح بإذن الله تعالى.. وإذا رغبت فإنني أعرف محلًا معروضًا للإيجار يقع على ناصية الشارع الرئيسي للحارة وحوله الكثير من المحلات والدكاكين، ويمكن أن نذهب لتشاهده بعد نهاية الدوام وإن أعجبك؛ فبإمكاني أن أتوسط لك عند صاحبه ليساعدك في الإيجار.. نال المحل استحسانه وكان صاحب العمارة كريمًا معه حيث أعفاه من دفع نصف الإيجار تشجيعًا له.. ولما غادر المؤسسة بعد شهر كان المطعم جاهزًا لاستقبال زبائنه.. يأتي إليه بعد صلاة الفجر مباشرة ليعتلي المنصة العالية وأمامه جرة الفول وقدر القلابة الشهية، وحولهما تصطف آنية السمن البري وزيت الزيتون، والزلطة الحارة والباردة والطحينة والحمر، والملح والفلفل الأسود والكمون، وغيرها من أنواع البهارات وأكوام من الصحون التي يغرف فيها طلبات الزبائن الذين يأتون إليه منذ الصباح الباكر ويتحلقون حوله.. يغرف من جرة الفول مرة ومن قدر القلابة أخرى، وهو يردد بصوت جميل.. صلوا على الحبيب المصطفى.. صلوا على كامل النور، وبين الحين والآخر يتوقف عن العمل ليمسح عن وجهه حبات العرق بالفوطة البيضاء المعلقة على كتفه.. أو يفتح صندوق النقود ليلقي عليه نظرة عاجلة على الغلة تبعث في داخله السرور، ويحمد الله على رزقه وفضله.. وفي نهاية كل أسبوع يذهب إلى البنك ليودع في حسابه ما تجمع لديه من نقود بعد أن يقوم بدفع أجور العمال وأثمان مشترياته من الفول الحب والمجروش والدقيق، وغيرها من المواد التي يحتاجها العمل..
.. في إحدى زياراته للبنك قال له موظف خدمات العملاء: ماشاء الله عليك يا عم سعيد أنت أحد عملائنا المميزين وأكثر ما يعجبني في شخصيتك أنك ناجح في عملك وأنت لا تحسن القراءة والكتابة.. ؟! كيف لو كنت متعلمًا؟! أعاد المقعد الذي يجلس عليه إلى الوراء قليلًا.. وأجاب وهو يضحك بحبور كنت يابُني سأظل أعمل فراشًا بإحدى المؤسسات.. ووقف مودعًا وهو يقول للموظف من واقع خبرتي أستطيع أن أقول إنكم تقدمون لعملائكم قهوة متقنة يشكر عليها العامل الذي يقوم بصنعها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com