المقالات

أنظمتنا بهويتنا

ليس أدعى إلى الغبطة ولا أبهج إلى النفس من أن يتطلع الإنسان في المملكة العربية السعودية إلى ما تبذله القيادة الرشيدة من جهود كبيرة في تطوير البيئة التشريعية والأنظمة العدلية، فقد تلقى الناس خبر صدور “نظام المعاملات المدنية” قبل أسابيع قليلة بكثير من الفرح والغبطة، وهو أحد إبداعات السلطة التنظيمية في بلادنا ضمن سلسلة من التشريعات القانونية التي أعلن عنها سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز-أيده الله بتأييده- في الثامن من فبراير 2021 وأدلى بهذه المناسبة بحديث إلى “العربية” قال فيه: “بأن المملكة العربية السعودية تسير وفق خطوات جادّة في السنوات الأخيرة نحو تطوير البيئة التشريعية، من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتُرسِّخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وتحقّق التنمية الشاملة، وتعزّز تنافسية المملكة عالميًا..” أ.هـ.
وتتالت هذه المشروعات في الصدور منذ لحظة إذاعة الخبر ببرهة وجيزة، جادة في وصولها إلى تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 لصناعة بيئة تشريعية شاملة تشد من شأن استقرار المعاملات والأوضاع القانونية، وتسرع من صدور الأحكام وتزرع الطمأنينة في أوساط المستثمرين، فهدفها الأسمى صناعة بيئة تشريعية جاذبة ومحفزة لرؤوس الأموال، حتى رأينا كيف أن تقلبات المناخات الاقتصادية في العالم لم تكن لتمنع من بقاء المملكة في أعين العالم ملاذًا آمنًا للاستثمار مع ثبات ثقة المتعاملين في منظومة العدل والقضاء السعودي.
اتخذ اليوم نظام المعاملات المدنية- والتي اختطته أنامل كبار علماء الشريعة والقانون في المملكة- مكانه اللائق به في البيئة التشريعية من حيث مركزه النظامي، فهو القانون الأم في المسائل المدنية يسد وجه النقص إذا ما افتقدت تلك القوانين إلى النص ويوضح ما أنبهم منها وغمض نصها، وهو بالنسبة لباقي القوانين العمود الفقري في هرم النظام، ويكتسب أهمية ثانية من جهة عدد مواده ونطاق سريانه، فهو ينظم علاقة الفرد بغيره من حيث المال في الغالب، “والمال إذا نقل من لغة الاقتصاد إلى لغة القانون سمي حقًا والحق مصلحة يحميها النظام”. ولعل باستطاعتي أن آتي على بيان شيء من بدائع النظام، بعد أن أدلف بداية إلى أن هذا النظام انتهج في طريقة صدوره نهج التقاليد التشريعية المستقرة في بلادنا المباركة منذ هيأ الله سليل بيت المجد والسؤدد: الملك عبد العزيز – رحمه الله – الذي قام بلم شعثها، وجمع شملها المتفرق، وبناء كيانها على أساس من منهج السلف الصالح الذي ورثه عن آبائه الكرام حُماة الدعوة السلفية، فقد ظفرت الشريعة بمكانة عزيزة في وجدان الإمام قبل أن تكون تطبيقًا وواقع حياة يعيشه الناس، فاستطاع بحنكته أن يلائم بين أحكام الشريعة -باعتبارها مصدرًا خصبًا- وبين أوضاع الحياة الاجتماعية في البلاد.
إن يقينه-رحمه الله- أن الشريعة تتماشى تمامًا مع تطور المجتمع ولا تعوق بحال سيره نحو التقدم يزيد يومًا عن اليوم الذي قبله مع اتساع رقعة البلاد آنذاك ونمو علاقاتها بمحيطها الإقليمي والدولي، ولقد سبق علمه علم خبراء القانون من أن كثيرًا من نظريات الفقه والقضاء الوضعي كانت معروفة عند فقهاء المسلمين، وأن الشريعة لم تكن أقل ثراءً مما تركته التشريعات المقارنة فيما له صلة بحديثنا هنا بل هي أغزر درًا وأوسع أفقًا.
وإن كان صدور نظام المعاملات المدنية -وهذا شأنه- إلا أنه لم يكن ليقطع صلته بين ذلك الإرث العظيم وواقعنا الحاضر، بل الأكثر من ذلك أنه اتخذ ما يناسبه من أوضاع ذلك العهد أساسًا له وقاعدة ينطلق منها، واستحدث من الأحكام ما اقتضته مصالح البلاد والعباد؛ فنحن اليوم أمام صورة تتعاظم من صور التطور العلمي الذي بلغه علم القانون في المملكة على مدى شارف قرنًا من الزمان وصورًا أخرى من صور البلاغة في الصياغة والمواءمة.
في هذه الإطلالة أقف معكم على ألمعية من ألمعيات هذا السفر “نظام المعاملات المدنية” فإنه بادئ الأمر تناول ما ينبغي على ناظر الدعوى في الفصل في كل ما يعرض عليه من خصومات، فأبان عن القاعدة التي يتعين على القاضي اتباعها للوصول إلى الفصل في الخصومة وحسم مادة النزاع في حال لم يوجد نص يمكن تطبيقه، فأرشده إلى ما ينبغي، وذلك بإعمال القواعد الكلية المنصوص عليها في خاتمة النظام، وهي إحدى وأربعون قاعدة، فإن لم يجد قاعدة يمكن إعمالها طبق الأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة للنظام وأشدها قُربًا إليه.
الظاهر من نية المُنظم السعودي في جمع مصادر تطبيق النظام على النحو الوارد في المادة الأولى ليس إلى مجرد تعدادها؛ بل يراد بيان تدرجها من حيث الأولوية في الحكم والتطبيق، لذلك يبدأ قاضي الموضوع في التماس الحكم في الدعوى من نصوص النظام “لفظه أو فحواه”، بمعنى استخلاص الحكم إما من عبارة النص، وإما باستنباط لوازمه أو بالكشف عن حقيقة مفهومه أو دلالاته بطرق التفسير المختلفة.
فمتى ما وجد القاضي الحكم في نص النظام أو استخلصه منه، تعيَّن أن يمضيه وامتنع عليه الأخذ بطرق اجتهاده، فإذا لم يجد في نصوص النظام حكمًا يمكن تطبيقه، لزمه أن ينظر في القواعد الكلية المنصوص عليها في خاتمة النظام، فإن لم يجد طبَّق الأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة له أي للنظام؛ مما يعني أن القاضي يجتهد وسعه في تقريب هذه الأحكام من أحكام النظام، دون أن يتقيَّد باتباع لمذهب معين أو قول إمام كما هو شأن بعض القوانين المقارنة؛ ليقضي بهذه الكيفية على أية إشكالات قد ترد عن فراغ تشريعي يجد القاضي فيه نفسه محل المتوقف عن الفصل في الخصومة أو كما اصطلح عليه في مدونات القانون المقارن “ناكلًا عن القضاء” و”منكرًا للعدالة”.
وفي نهاية كلامي أنوه إلى مسألة تكثر هذه الأيام بحكم حداثة هذا النوع من القوانين، وهي استدلال البعض بأحكام القضاء والفقه المقارن في معرض تناولهم لمسائل نظام المعاملات المدنية؛ مستندين إلى ما بين دفتي تلك المدونات من أفهام وتعليلات دون التأمل في ترتيب مصادر تطبيق القانون بين هذا وذاك، ويعتبرونها كما لو أنها طريق واحدة، بينما الفارق وسيع والأثر كبير.
د. أحمد بن علي الشهري
دكتوراة في الشريعة والقانون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com