منتدى القصة

لحظات عابرة ما

حكاية

راق له أن يفعل ذلك مرة أخرى..اختار إحدى علب العصير الفارغة المُلقاة في الشارع فقذفها بقدمه اليسرى إلى الأعلى، وراح يتتبع مسارها، وهي تقع على الأرض على بُعد أمتار قليلة منه..أعجبته اللعبة كثيرًا كما أنها جذبت إليه أنظار مجموعة من الأطفال الذين تحلقوا من حوله في محاولة لانتشال العلبة من بين قدميه، وهو يحاورهم بها في سعادة غامرة لم يذق طعمها منذ مدة.. وعندما لاحظ التفات بعض المارة نحوه متعجبين مما يفعله شاب في مثل عمره قذف بالعلبة بعيدًا، ولملم أطراف ملابسه وأحكم شماغه على رأسه ومضى مسرعًا حتى ابتعد عن الأعين الساخرة ..التي تستكثر عليه لحظات من السعادة والفرح التي يضج بها قلبه بعد أن أنهى للتو دراسته الجامعية وحصوله على شهادة البكالوريوس في العلوم.. الذي اختار تخصصه بُناءً على نصيحة مدرس الفيزياء في المدرسة الثانوية الذي قال له ولزملائه في الفصل: من أراد منكم المستقبل العريض والوظيفة المضمونة -بإذن الله- فليدرس في كلية العلوم فإن أبواب العمل مُشرعة لخريجيها في التدريس والمستشفيات والشركات الكبرى….كان دخوله الجامعة تحقيقًا لحلم كان يراود والده الذي أصر على أن يكمل دراسته الجامعية.
… وهو يقول له يا وليدي نريد أن نفتخر بك بين أهلنا.. أما هو فكان يرغب الدخول إلى معترك الحياة العملية بعد أن أنهى المرحلة الثانوية..لقد كان والده واحدًا من أبناء القرية الذين تمسكوا بعملهم في زراعة الأرض التي ورثها عن جده ..بينما غادر الكثيرون من رفاقه للعمل في أماكن عديدة من مدن المملكة ..أربع سنوات قضاها في الدراسة يعلم الله كيف مضت بحلوها ومرها.. وحين تخطت أقدامه بوابة الجامعة إلى الشارع، كانت أحلام الوظيفة والراتب المجزي تملأ مخيلته، وهو يحمل وثيقة التخرج سعيدًا بها.. لقد جاء اليوم الذي يرد فيه شيئًا يسيرًا من الجميل نحو أمه وأبيه وأسرته.. لقد تقدم بأوراقه للعديد من الجهات الحكومية والشركات بحثًا عن عمل في مجال تخصصه.. وهاهو الآن في طريقه إلى محطة النقل الجماعي؛ ليسافر إلى قريته وأهله انتظارًا لوصول خطاب تعيينه ..دخل بوابة المحطة جلس على أول مقعد صادفه في طريقه بعد أن دفع بجزء مما تبقى من آخر مكافاة تلقاها من الجامعة ثمنًا لتذكرة الذهاب ..كانت الساعة تقترب من الثالثه والنصف عصرًا حين بدأ موظف المحطة يدعو المسافرين على الرحلة المتجهة إلى قرى مكة المكرمة والطائف و …و……لم ينتظر إلاعلان عن اسم قريته بل سارع بالتقاط حقيبته الصغيرة ومضى نحو سيارة الأتوبيس الضخمة التي تدافع الركاب إلى داخلها ..تحركت السيارة في موعدها المحدد حاملة في جوفها خليطًا من المسافرين معظمهم من عمال الشركات التي تقوم بأعمال مختلفة على امتداد الطريق.. الذين تفرقوا على مقاعدها…في حين تناثر على ما تبقى من المقاعد ثلاث عوائل أحداهما عائلة مكونة من رجل وامرأته وثلاثة من الأطفال أحدهم رضيع ألقمته أمه ثديها لتسكت جوعه غير عابئة بنظرات العمال من حولها..في حين احتلت العائلة الأخرى المقاعد الخلفية من السيارة.. بينما استقر به الجلوس في أول مقعد على يمين السائق قبل أن يصعد إلى السيارة رجل تجاوز الستين من عمره؛ طالبًا منه أن يفسح له مكانًا إلى جواره هو وابنته..فقام من مقعده بجوار النافذة لتجلس عليه الفتاة، وجلس هو على طرف الممر تاركًا المقعد الأوسط للرجل العجوز الذي شكر له صنيعه وبادره قائلًا: وكأنه يواصل معه حديثًا لم ينقطع أنني لا أحب السفر بالطائرة رغم أنني موظف سابق بالخطوط السعودية التي عملت بها لمدة أربعين عامًا..وتقاعدت منها منذ سنوات قليلة، وطوال مدة خدمتي لم أسافر على الطائرات إلا مرات معدودة لا تتعدى أصابع اليد.. وجميعها رحلات لداخل المملكة.. ومضى يحدثه في عفوية عن حياته العملية والخاصة بينما كانت ابنته تبتسم في خجل ووالدها يحدثه باستفاضة عن حياته الشخصية وأشياء عن حياة أسرته.. لقد رزقني الله بثلاث بنات وولد وهذه ابنتي عائشة أصغرهم.. آخر العنقود مثل ما يقولوا … تخرجت من كلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز بجدة قبل سنتين، وبما أنني متقاعد وخالي شغل وبما أن والدتها ما تقدر تفارق بناتها تقرر أن أذهب معها مرافقًا بعد أن جاء تعيينها بمستوصف طبي بإحدى قرى الجنوب، والحمد لله مرت سنة وبقيت سنة، وينقلوها إلى جده حسبما قالوا بإذن الله تعالي..والحقيقة أن الشهور الثلاثة الأولى التي عشتها في القرية كانت صعبة للغاية، ولكن الشهادة لله البلد طيبة وأهلها أطيب ..ويرتفع صوته بضحكة صافية، وهو يقول بيني وبينك لولا أنني أخاف من زعل أم العيال كنت سويتها وتزوجت واحدة من جماعتكم ..ثم تسأل وكأنه نسى شيئًا مهمًا.. يظهر لي أنك موظف في مدينة جدة، وذاهب في زيارة لأهلك أو مدرس في إحدى القرى تم تعيينك حديثًا .. التفت إلى الشيخ، وهو يقول: مبتسمًا والله ياعم لا هذه ولا تلك ولكنني راجع إلى أهلي وقريتي بعد أن تخرجت من الجامعة، وفي انتظار قرار تعييني..قال له الرجل بلهجة فيها الكثير من التشجيع والتفاؤل ولا يهمك غدًا يأتيك قرار التعيين وتفرح أنت وأهلك .. زمجرت السيارة، وهي تصعد منحدرًا جبليًا، تحيط به أشجار متنوعة من السدر والطلح وغيرها من الأشجار في حين بدأت الشمس تلملم أطراف ثوبها استئذانًا بالمغيب .. أعلن سائق الحافلة أنهم سيتوقفون عند المحطة القادمة؛ ليصلوا المغرب ولتناول بعض الطعام قبل أن يواصلوا مسيرتهم نحو آخر محطتين في رحلتهم.. استيقظت الفتاة بعد أن سكنت محركات السيارة.. رفت على شفتيها شبه ابتسامة وقد تلاقت نظراتهما لأول مرة منذ أن انطلاقة الرحلة.. صحيح أنه شاهدها منذ لحظة دخولها المحطة مع أبيها كما تابعها وهي تصعد الحافلة، وحين اتجهت معه إلى المقعد حيث يجلس.. وأخلى لها مقعده إلى جوار النافذة ورأى ابتسامتها الخجولة ووالدها يحدثه باستفاضة عن أشياء من حياته الشخصية، ولكنه في كل تلك اللحظات العابرة لم يلقَ لها بالًا، ولم تشد انتباهه كما تفعل الآن والرجل يطلب منه أن يتحرك من مقعده ويسمح له ولابنته بالخروج، ويردف بلهجة آمرة دعنا نصلي المغرب جماعة ثم نتناول ما يسد جوعنا ونحتسي شيئًا من الشاي بالنعناع الطائفي .. أفرغت السيارة ما في جوفها من الركاب الذين تفرقوا في أنحاء المحطة كطيور هاربة من أقفاصها.. وفي حين مضى الشيخ يسرد ذكرياته القديمة وهما يرتشفان الشاي بالحليب، كانت الفتاة تقف غير بعيد عنهما عند طرف المنحدر الجبلي، وهي تلف جسدها الطويل بمعطف سميك فيما كانت نسمات الهواء تداعب خصلات شعرها الأسود المنسدل على كتفيها في دلال.. أحس وهو يسترق النظر إلى وجهها الأبيض وعينيها الواسعتين وأنفها الدقيق أنه يعرفها منذ مدة .. إنها تشبه إلى حد بعيد إحدى بنات قريته اللواتي لا تمل والدته عن الحديث عنهن ورغبتها أن يقترن بإحداهن .. ترى لو تقدم لأبيها طالبًا الزواج منها هل تقبل به زوجًا وهل يوافق والدها على تزويجه لشاب لازال في بداية الطريق يبحث عن عمل.. غاب في ملاحقة حلم واسع وانطلق يسابق بخياله الغد القادم محاولًا الإجابة على الأسئلة التي مرت بمخيلته ولم لا تقبل به زوجًا، ولم لا يوافق والدها تزويجه إياها ..غدًا سيجد العمل المناسب والوظيفة المحترمة وبعد زمن قصير سيكون عنده المهر وتكاليف الزواج وتأثيث المنزل الذي يسكنونه.. وعندها سيتقدم لخطبتها من أبيها.. اتسعت دائرة حلمه وتخيل نفسه وقد تم تعيينه مدرسَا بنفس القرية التي تعمل بها وقد أصبحا زوجين يجمعمهما بيت صغير من بيوت القرية الوادعة.. قطع صوت سائق الحافلة تسلسل أحلامه وهو يعلن وشك الوصول إلى المحطة قبل الأخيرة من الرحلة ويطلب من المسافرين إليها الاستعداد للنزول من بطنها.. وقف.. وحمل حقيبته بيده اليسرى ببنما امتدت يده اليمنى؛ لتصافح الشيخ الطيب الذي وقف يودعه بصوت فيه وعد بلقاء قريب قائلًا: وعلى وجهه ابتسامة عريضة لقد أصبح بيننا عيش وملح ورفقة سفر.. أرجو أن تنورني بزيارة قريبة أسأل عني.. عن أبو الدكتورة جميع أهل القرية يعرفونني .. وبدون تفكير وجد نفسه يشد بقوة على يد الكهل الطيب؛ كأنما يود أن يبوح له بسر لا يستطيع أن يحتفظ به في صدره ..سيدي الشيخ أن لديك ابنة طيبة مثلك وجميلة وكم كنت أود الاقتران بها.. إنني شاب أقدر المسؤولية وقادر -بإذن الله- أن أبني أسرة ولكنني يا سيدي لا أستطيع أن أدع ابنتك تنتظر كثيرًا؛ فالأمر لا لا يتعاق بي وحدي .. وعندما توقفت السيارة عند حافة القرية، قفز منها ونظر إلى نافذة الحافلة كانت الفتاة لازالت تنظر من خلالها .. تطلع إلى وجه القمر وهو يغمر المكان بضوئه الهادي .. تنفس نسمات الهواء الطرية وعبق الزرع الأخضر….سبح بعينه في الأفق البعيد وهو يرى الحافلة تتوارى خلف الغبار الناشئ من عجلاتها ….راق له أن يفعل ذلك مرة أخرى اختار إحدى علب العصير الفارغة الملقاة في الشارع فقذفها بقدمة اليسرى إلى الأعلى، وراح يتتبع مسارها وهي تقع على الأرض على بعد أمتار قليلة منه….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com