المقالات

الأمن وأبعاده

(1)
مما أطبقت عليه الشرائع السماوية، والفطر السليمة، والأنظمة الحديثة، أن العمران البشري لا يترسخ ولا يسود إلا بتعميق الأمن بمعناه الشامل، وقلب ظهر المجن لما يُناقضه من الفوضى، وزعزعة الأوضاع، وبث أراجيف الخوف، وتهديد الاستقرار، ومما اتفق عليه الحكماء والعقلاء، أن الناس والأفراد والأمم مهما تفاوتت أنصبتهم قددًا، واختلفت أقدارهم عددًا، ومعاشهم كمًا وكيفًا، فيجمعهم قاسم واحد مشترك يتمثَّل في حاجتهم جميعًا للأمن؛ إذ لا فرق فيه بين الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والكل بحاجة إلى الاستظلال بظله الوارف، والاستسقاء من معينه الصافي، وقد أطبقت على ذلك ركائز العقيدة الصحيحة، ونظريات السياسة، والاقتصاد، وعلم الاجتماع والنفس، بضرورة تحصيل الأمن وتحقيقه بكل وسيلة مُباحة ومُتاحة، كما تُشير الدراسات النفسية أن أبرز دلائل السعادة البشرية هي: الشعور بالأمن على النفس والمال والولد والوطن، وتفتقت نظريات الإدارة والسياسة الحديثة عن قائمة وفروع عديدة للأمن مشفوعة بأدبياتها ومباحثها النظرية والعملية، وعنيت الدولة الحديثة بالأمن أيما اهتمام، فظهرت في كل دول العالم بلا استثناء وزارات وأقسام وإدارات ومراكز للأمن متعددة التخصصات والفروع الداخلية والخارجية، بيد أن الشيء الوحيد الذي انفرد به الإسلام دون غيره، ولم تُلم به نظريات الأمن المعاصرة وتعرفه. هو الربط بين الأمن السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وبين الأمن العقدي والأخلاقي، وأن امتلاك القوة المادية وحدها لا تُعد كافيةً لضمان أمن المجتمعات والدول والأمم في الحاضر والمستقبل، كما قدّم الإسلام حوافز فورية، وجوائز ناجزة، لمن أخذ بأسباب الأمن المادية والمعنوية معًا، فيما يُنال تحقيقه ومعرفته من السنن القدرية والشرعية والكونية التي لا تجامل أحدًا كائنًا من كان، يقول الله تعالى عن الأمن الشامل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف: 96)، ويعرض الحق سبحانه أنموذجًا تاريخيًا لأهل مكة الذين ناهضوا الرسالة الإسلامية مذكرًا إياهم بالأمن، وهو تهديد مُبطن لهم بالتهديد بفقدانه قال تعالى: (فَلۡیَعۡبُدُوا۟ رَبَّ هَـٰذَا ٱلۡبَیۡتِ ۝٣ ٱلَّذِیۤ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعࣲ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ ۝٤﴾ (قريش ١-٤).
كما قرن الأمن الجماعي والفردي بالطاعة والاستقامة قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 82)، والمراد بالظلم سائر الذنوب والخطايا، والمظالم والانحرافات بكل أشكالها وألوانها .
وعلينا معاشر المسلمين أن نستوعب هذه الحقائق القرآنية، ونصوغها في نظريات علمية وعملية قابلة للتنفيذ؛ بحيث تستوعب جميع مظاهر الحياة المختلفة، لننعم بكل ثمرات الأمن السابغ، وندخل من أبوابه المتفرقة، ونعتكف في محاريبه الآمنة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com