المقالات

لا تظلموا الغراب

يمثل الغراب غموضا كبيرا في عدد من الثقافات العالمية؛ إذ حضر في النتاج الأدبي والفني لأشهر الأدباء والمفكرين، وقد أبحر الكاتب “بوريا ساكس في كتابه “الغراب”: التاريخ الطبيعي والثقافي، في رحلة مشوّقة تناولت في جانب منها رمزية الغراب في علاقته مع البشر في أساطير وتقاليد الصين، والهند واليابان، والإغريق، والرومان، والفرس، والهنود الحمر بأمريكا. وتختلف النظرة إليه، فهو يمثل جملة من التناقضات: الموت والخطر وسوء الحظ والمرض، في الوقت الذي يمثّل فيه: الولادة الجديدة والتأمل الذاتي والذكاء والولاء، وعلى هذا النحو فيمكن له أن يكون فألًا جيدًا أو سيئًا، اعتمادًا على الثقافة والمعتقدات.
وإذا انتقلنا إلى الثقافة العربية والإسلامية، وقفنا ابتداء على ما ورد ذكره القرآن الكريم من قصة الغراب الذي علّم أوّل قاتل كيف يواري سوأة أوّل مقتول، في قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].
وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ قال: جاء غرابٌ إلى غرابٍ ميتٍ، فحثى عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي. وقد أجمع جمهور من المفسرين أن الغراب كان الطائر الذي علم ابن آدم دفن أخيه وأشعره بالندم لأنّ فكره لم يهدِه مباشرة، بل دله الغراب على كيفية مواراة سوأة أخيه، فكان أفضل منه. وبالتالي فإن هذا الغراب تفوّق على البشر ليس في ذكائه فحسب، بل في حفظه لكرامة روح. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أن الغراب أذكى الطيور وأمكرها على الإطلاق، وقد خلقه الله مؤهلاً لهذه المهمة، وقد أثبتت الدراسات العلمية أنه يملك أكبر حجم لنصفي دماغ بالنسبة إلى حجم الجسم في كلّ الطيور المعروفة
فيما ورد ذكر الغراب في الحديث الشريف على أنّه من الفواسق، التي تُقتل في الحلّ والإحرام، ولا يجوز أكله؛ لأنّه يأكل الجيف والنجاسات، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الدواب كلهنَّ فاسق يُقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور). فهذا حديث يفيد بسنّة قتل الغراب لإتلافه المحاصيل، وبالتالي إفساده طعامَ الإنسان والحيوان.
وفي وقت قريب تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي موقفًا للغراب أدهش العالم بأسره، في مقطعٍ وثّق لحظة إسقاط علم إسرائيل من على سارية أحد الأبنية، وسبقه مقطع لعدد من الغربان الجارحة وهي تمزّق العلم بمناقيرها الحادّة، وهي تقف أعلى حائط يتخلله أعمدة تبدو مصنوعة من الحديد، إذ إنها بلون رمادي فاتح ولامعة، تعلوها أقمشة مربعة بيضاء يتوسطها علامة النجمة الزرقاء. وكان هذا ممّا أدخل السرور، فيما اعتبره كثيرون فألاً حسناً لقرب زوال هذا الكيان الغاشم وانتهائه.

فإذا لا يمثّل وصف الغراب وتفرده بتعليم البشر إعجازا علميا كبيرا فحسب، بل يحمل في طياته سلسلة من التناقضات التي يصعب الوصول لتفسير بشري لها. إلّا أنّ لنا دروسًا مستفادة من سلوك هذا الغراب، من أهمها:
الأوّل: ثمة أمور ليس لها وجه واحدـ وأن للبشر محدودية في التفكير والتحليل لا يستطيعون تجاوزها الى ما هو أبعد وأعمق مهما بلغوا من العلم والمعرفة.
الثاني: قدرة هذا الكائن على تعليم البشر أمرٌ لم يكن ليتهدى إليه إلا بإرادة الله، فقد علّمنا مواراة الموتى، بينما يعجز بنو البشر عن ستر عيوب إخوانهم من بني جلدتهم، وبني دينهم وملتهم.
الثالث: حاجة البشر لدراسة وفهم السلوك الحيواني كبيرة، فما أوتوا من علم ومعرفة لا يمثّل شيئا من علم الله عز وجل “وفوق كل ذي علم عليم”. فلا يغتر بنو البشر بما لديهم من علم وحسن فكر، فكل ذلك إنّما هو بتوفيق الله لهم، وما تميز البشر به من قدرة عقلية على التفكير، والتحليل، والتركيب، منحه الله تعالى لكائناته كلّها بدرجات متفاوتة، وبشكل قد لا يستوعبه البشر لقصور علمهم ومحدودية إدراكهم. فلا تظلموا الغراب فقد أثبت في مواقف عدة أنّه أبعد نظرا وأكثر عمقا من بني البشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com