في زمن ليس ببعيد، كانت الأمهات يحتفظن بمجلد سميك يُدعى “منال العالم للطبخ”، كأنه كتاب مقدس للوصفات، تمسك به الواحدة منهن بيد، وباليد الأخرى تقلب الطعام في القدر، بينما يتصاعد البخار برائحة البهارات الشهية. لكن الزمن تغيّر، ولم يعد هناك وقت لتصفح كتاب من مئات الصفحات، فالحل الأسرع هو “التكتك”! لا، ليس الـ ” تيك توك “ الذي يزاحم السيارات في الطرقات، بل ذلك المقطع القصير على “تيك توك” ، الذي يختصر الطبخ في 30 ثانية، فتجد الأم تشاهد وصفة فطور من خمس مكونات، تُخلط مع بعضها بطريقة سحرية، وفي النهاية تُصبح طبقًا فاخرًا دون جهد يُذكر.
أصبح المطبخ اليوم ميدان سباق بين الأمهات، فكل واحدة تبحث عن أحدث الوصفات العصرية لتبهر العائلة على مائدة الإفطار. لم تعد المسألة مجرد “شوربة وعدس وسمبوسة”، بل تحوّلت إلى عرض تقديمي لمأكولات فاخرة، بعضها لا نعرف أصله ولا فصله. المشكلة ليست في تنوع الأطعمة، بل في أن بعض الأمهات يتابعن “الطبخ” أكثر مما يطبخن! تفتح الأم هاتفها لتشاهد وصفة، تتنقل بين التعليقات، ثم تجد نفسها في فيديو آخر عن “أفضل طريقة لتقطيع البصل بدون دموع”، او ربما مقطع أخر يبث عن أحدث صرعات الموضة في الأزياء، وربما احدث تقنيات الموضة في عالم ” الميكب ” ، ثم ينتهي الوقتوهي تستمع للفنان محمد عبده ” لا تسرق الوقت ” ، فتلجأ إلى الخيار السهل: توصيل وجبة سريعة من المطعم المجاور متخمة بالزيوت .!
كانت سفرة الإفطار زمان تحكمها قواعد صارمة: لا إفطار بدون سمبوسة، اللقيمات ضيوف الشرف، والشعيرية والمكرونة والشوربة أركان لا تهتز. أما اليوم، فالمائدة تعيش أزمة هوية، إذ بدأت هذه الأطباق العريقة تتراجع أمام أكلات جديدة غريبة. أصبحنا نسمع عن “تاكو رمضان”، و”باستا بالفستق”، و”برجر بطعم الهريس”. بل حتى السمبوسة، التي كانت نجمة السفرة بلا منازع، أصبحت ضحية للتحديث، فمن سمبوسة محشوة باللحم أو الجبن، إلى سمبوسة بنكهة الشوكولاتة و” المارشميلو”..!
تذكّرنا هذه الفوضى الغذائية بمقولة عادل إمام الشهيرة: “بوفتيك مفروم مع بيضة نية،اسم الله عليك يخس عليه!”، إذ يبدو أن معظم ما يُقدم اليوم على المائدة يشبه هذه العبارة الساخرة. طبخات سريعة، غير متجانسة، بعضها يبدو كأنه تجربة علمية فاشلة أكثر من كونه وجبة عائلية. وبينما كانت سفرة الإفطار تجمع العائلة على مائدة عامرة بالخير، أصبحت اليوم تشبه “بوفيه مفتوح” فيه كل شيء، لكنه بلا روح.
أين نحن ذاهبون؟!
إذا استمر الوضع بهذا الشكل، فقد نصل إلى زمن تصبح فيه وجبات الإفطار عبارة عن أقراص غذائية تُشحن عبر الإنترنت، أو ربما مجرد “فلتر” يضع على الطاولة صورة لمائدة شهية، لكن لا وجود لها في الحقيقة! لذا، لنعُد قليلًا إلى الماضي، لنأخذ منه ما يحفظ هويتنا، ولنحافظ على سفرتنا الرمضانية الأصيلة قبل أن يتحول الإفطار إلى مجرد “ترند” عابر في عالم التكتك!