المقالات

زيارة معاليه… حين تسبق الورود القرارات!

في كل مرةٍ يُعلن فيها عن زيارة «معالي الوزير» لإحدى إدارات وزارته، تبدأ مراسم الاحتفال قبل أن تطأ قدماه أرض الميدان.

تتحوّل المكاتب إلى ورش عمل طارئة، تُستدعى فرق الصيانة والدهان والمفروشات، ويُعاد ترتيب المقاعد كما تُعاد صياغة الحقيقة — لتبدو الزيارة وكأنها مهرجان تجميلٍ رسمي لا تفتيش إداري.

تُغسل الجدران كما تُغسل الوجوه، وتُدهَن الأسوار بألوان التفاؤل المصطنع، وتُنثر الورود على الأرصفة التي بالأمس القريب لم تحتمل خطى الموظفين أنفسهم.

بل إن بعض الإدارات – من باب الاجتهاد في التجميل – تشتري حتى ملابس جديدة للعاملين، وكأن الوزير سيُقيّم الأداء بناءً على جودة القماش لا على كفاءة الإنسان!

المضحك – والمبكي في آن – أن كل تلك البهرجة تُصرف من ميزانيةٍ كان يفترض أن تُوجّه لخدمة المستفيدين، أولئك الذين تتباهى الوزارة بوجودهم في تقاريرها السنوية، بينما يقفون اليوم في طوابير الانتظار يتساءلون: أين ذهبت حقوقنا؟

لكن لا أحد يسمعهم وسط ضجيج التصفيق، ووميض الكاميرات، وأكاليل الورد التي تذبل بعد رحيل الموكب مباشرة.

ثم يخرج معاليه، بابتسامته المعتادة، ليقول في المؤتمر الصحفي:

“وجدنا العمل يسير على أكمل وجه، وكل شيءٍ في أبهى صورة!”

ونحن نصدّق — أو نتظاهر بالتصديق — مع أننا نعرف أن الصورة تلك لم تُلتقط إلا بعد ثلاث طبقات من الطلاء وكذبتين من الحجم الوزاري الكبير.

ولأن البهرجة أصبحت سياسةً لا صدفة، فقد صار الكذب منظومةً لها فروع وأقسام:

يكذب الموظف مجاملةً، ويكذب المدير خوفًا، ويكذب المتحدث الرسمي لأن الصدق لا يليق بالمؤتمرات.

والوزير؟ ربما لا يكذب، لكنه فقط لا يسأل.

إن أخطر ما يمكن أن تصاب به أي وزارة ليس الفساد المالي ولا الإداري، بل داء التجميل المزمن، حين تُقدّم الشكل على المضمون، وتُقدّس الصورة أكثر من الفعل.

وحين تصبح الزيارة مناسبةً لتلميع الوجوه بدلاً من تصحيح المسار، فاعلم أن الورود التي فُرشت اليوم ستذبل غداً، لكن رائحة الخداع ستبقى في الممرات.

همزة وصل :

يا معالي الوزير…

زر متى شئت، ولكن لا تنسَ أن الوردة مهما تبرّجت لا تخفي شوكها، وأن الصدق — لا الطلاء — هو ما يرمم جدران الوزارة المتصدعة.

جمعان البشيري

محرر صحفي - جدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى