المقالات

رؤية تترجم .. ومشقة تختصر.. كيف قادت السعودية ملحمة تنظيم الحج؟

من بين أفواج الحجيج وتحت شمس عرفات ومخيمات منى وعلى مدى أربعة عقود من العمل الميداني وقفت شاهداً لا ينسى أراقب وأشارك في مسيرة تطوير عظيمة قادتها المملكة العربية السعودية لتنتقل بالحج من مشهد المشقة إلى عصر الجودة والتنظيم والتيسير.

كمطوف من أبناء مهنةٍ عريقة حملت رايتها من والدي المربي والمطوف وعشت بين ثناياها قصة وطنٍ جعل من خدمة ضيوف الرحمن ميداناً للشرف ومدرسة للعطاء. رأيت الحج قديماً يوم كانت الطرقات تضيق بالحجاج والسيارات حين كانت النفرة من عرفات إلى مزدلفة تستغرق ساعات طوال وتختلط فيها المركبات الخاصة بالحافلات النظامية ويثقل الديزل أنفاس كبار السن والنساء من الحجاج وهم عالقون في زحام لا يطاق.

كانت التحديات حاضرة لكنها لم تكن عائقاً أمام إرادة التطوير. عاماً بعد عام كنت أرى بعيني كيف تحولت تلك المشقة إلى قصة نجاح. كيف تم ضبط الدخول إلى مكة وتنظيم الحركة بين المشاعر وباتت الحافلات تسلك مسارات ترددية ذكية تنقل الحجاج في زمن قياسي دون توقفات مرهقة.

أحد أهم المفاصل التنظيمية التي شكلت فارقاً ملموساً كان إطلاق مبادرة “لا حج بلا تصريح” والتي أُطلقت رسمياً عام 2016م بمبادرة من مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل رئيس لجنة الحج المركزية.
جاءت المبادرة في وقتها المناسب كخطوة حاسمة لضبط أعداد الحجيج ومنع الازدحام العشوائي والافتراش وتمكين الجهات المنظمة من إدارة الموسم بناءً على بيانات دقيقة مما أثمر خططاً تنفيذية متقنة انعكست على كل تفاصيل رحلة الحاج.

وجاءت مشاريع كبرى لتتوج هذا النهج:
• النقل الترددي الذي غير مفهوم التنقل في المشاعر.
• قطار المشاعر الذي ينقل نحو ثلث الحجيج بكفاءة غير مسبوقة.
• منظومة التصاريح الذكية التي مكنت الجهات المختصة من معرفة عدد الحجاج ومواقعهم وخدماتهم.

فهذه ليست إنجازات عابرة بل هي نتائج لرؤية طموحة ترجمت بإخلاص بدءاً من عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود طيب الله ثراه ومروراً بأبنائه الملوك – رحمهم الله – حتى وصلنا إلى عهدٍ زاهر بقيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظهما الله.

ومع رؤية المملكة 2030 تحولت خدمة الحجيج من مسؤولية إلى مشروع وطني تنموي شامل نفذت خلاله مستهدفات نوعية في مجالات النقل، الإسكان، الإعاشة، الصحة، الأمن، إدارة الحشود، والتقنية، بل تجاوزت بعض المستهدفات توقيتها الزمني مما يعد دليلاً ومؤشراً على التزام الدولة العميق أيدها الله بجعل رحلة الحج تجربة إيمانية ميسرة بكل المقاييس.

واليوم، أكتب هذه الكلمات لا كمجرد راصد بل كابن للميدان وشاهد على حقبة عظيمة من التغيير لا يختلف عليها إثنان.
لقد عشت الفرق بكل تفاصيله من عناء الزحام إلى سلاسة المسارات من الفوضى إلى الانسيابية ومن الاجتهاد الفردي إلى التخطيط المؤسسي الذكي والعمل بروح الفريق الواحد. وما زلت أؤمن أن خدمة ضيوف الرحمن أعظم شرف وأن كل موسم حج هو صفحة جديدة تكتبها المملكة بريشة من ذهب في سجل التاريخ.

أسأل الله أن يبارك في هذا الوطن وقيادته وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان وأن يجعلنا دائماً ممن شرفهم بخدمة الحجيج وسجلهم في صحائف العاملين في أحب بقاع الأرض.

* مطوف وخبير ميداني في خدمة ضيوف الرحمن

أ.د. عصام بن إبراهيم أزهر

رئيس وحدة الكائنات المعدية مركز الملك فهد للبحوث الطبية جامعة الملك عبد العزيز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى