الصحافة موهبة وعشق صحفي تُنمّى بالمتابعة وصقل هذه الموهبة وتعلّم خفاياها وأسرارها، وكيفية السير في دروبها ومسالكها بنجاح. وبدون الإحساس بمحبتك لهذه المهنة والشغف بعشقها حتى النخاع، لن تستطيع سلوك هذا الطريق بنجاح.
فكليات الإعلام لا تستطيع أن تخلق من الطالب صحفياً إلا إذا كان قد دخلها عن موهبة وعشق للعمل الصحفي. هي صحيح تعلّمه طريقة الجانب النظري وأبجدياته، ولكن بدون وجود الموهبة والممارسة المهنية والعشق للعمل الصحفي لن يُبدع طالب الإعلام ما لم يوجد هذا العشق.
فأقول عن نفسي: بدأ العشق الصحفي يدخل إلى سويداء قلبي وأنا في الرابعة عشرة من عمري، رغم أنني نشأت في قرية نائية لا تصلها الصحف ولا وسائل النقل من سيارات أو طائرات. وكان ابن عمي الذي يسكن المدينة قد أرسل لي مجموعة من الصحف القديمة والمجلات وبعض كتب المناهج الدراسية. ورغم أنني لم أتعلم في مدرسة، بل كان والدي – رحمه الله – ملماً بالقراءة والكتابة على طريقتهم القديمة في تعليم الأميين مبادئ القراءة حتى يستطيع أن يقرأ رسالته ويكتب جوابه. حيث استطاع تعليمي القراءة والكتابة بالطريقة التي تعلم بها، كما حفظني جزء (عمّ) من القرآن الكريم.
وكم كانت فرحتي بمجموعة الصحف والمجلات القديمة والكتب الدراسية التي أرسلها لي ابن عمي ساكن المدينة؛ حيث عكفت على قراءتها بنهم كبير، وكنت معجباً بما ينشر في الصحف من أخبار. وعندما تركت القرية وذهبت إلى المدينة والتحقت بمدارس المتابعة الليلية، وُضعت في الصف الخامس الابتدائي بعد اختباري ونجاحي، لأنني كنت أجيد مبادئ القراءة والكتابة. وهكذا واصلت دراستي، ولكن بدأت أمارس عشقي وموهبتي في قراءة الصحف، ولم أكن أعلم أنه بإمكان أحد مثلي أن يشارك فيها بالكتابة، حتى جاء اليوم الذي أتاني فيه شقيقي الأكبر (حامد) – رحمه الله – وهو يحمل نسخة من جريدة (عكاظ) ويشير إلى موضوع نُشر فيها باسمه حول طلب وضع حواجز إسمنتية على حواف جبل ربع خريق العشر بمكة الذي تم شقه؛ وذلك لمنع تساقط صخور الجبل على السيارات والمارة.
ولما سألته عن كيفية نشر هذا الموضوع، قال ببساطة: كتبت الموضوع وأرسلته بالبريد على عنوان صفحة في عكاظ اسمها (نادي عكاظ) تهتم بنشر ملاحظات ومقالات القراء. وهنا حاولت أن أعمل كما عمل، وأرسلت (خربشاتي) لهذه الصفحة، ووجدتها تُنشر بعد ثلاثة أيام من إرسالها، وهكذا استمررت في ممارسة عشقي للعمل الصحفي، وأصبحت كل أسبوع أرسل ملاحظة لنادي عكاظ لمحرريها: عبدالله باحبير ثم سعيد الصبحي. وكم أجد فرحتي عارمة وأنا أشاهد اسمي يتصدر موضوعاتي في عكاظ، لدرجة أن أصحابي في الحارة يتندرون عليّ بإطلاق مسمى (عكاظ) عليّ، فأصبحوا ينادونني بـ (عكاظ).
وعندما ظهرت صفحة في جريدة (الندوة) تحت مسمى (البادية والزراعة) لمحرريها أولاً عبيدالله الحازمي وعادل جمادار ثم محمد عبدالله بركي – رحمه الله – كنت أرسل مقالاتي لها، ثم تطورت بدعم وتشجيع من محررها البركي وأصبحت أعمل حوارات مع أمراء القرى والهجر آنذاك وشيوخ القبائل والشعراء الشعبيين، واستطلاعات صحفية عن القرى وتاريخها.
وفي أحد الأيام أرسلني مدير عام المصلحة التي كنت أعمل بها م. عصام عابد قزاز – رحمه الله – بدفتر عبارة عن عقود بين المصلحة والمشتركين للانتفاع بخدمات المياه والمجاري، أرسلني به للندوة لنشرها لما علم أنني أكتب في الندوة، وأخذتها وسلّمتها لسكرتير تحرير الندوة آنذاك عيسى محمد خليل – رحمه الله – وقلت له: أنا أكتب عندكم في صفحة (البادية والزراعة)، فقال: إذاً نكتب الموضوع باسمك. وفعلاً فوجئت في صباح اليوم التالي بالخبر منشوراً بشكل بارز وبخط أخضر في الصفحة الأخيرة من الندوة. وكان بمثابة دعم وتشجيع لي، حيث أخذت أعد أخباراً وحوارات واستطلاعات وأحضرها للندوة وتُنشر بها.
وما هي إلا شهور حتى يمنحني رئيس تحرير الندوة آنذاك الأستاذ حامد حسن مطاوع – رحمه الله – بطاقة الندوة الصحفية، وهكذا واصلت مشواري الصحفي في مهنة أعشقها حتى النخاع. فجزى الله كل من دعمني وشجعني لممارسة هذا العشق الجميل، الذي إلى اليوم لا زلت أسير في دروبه بكل محبة وتقدير، ولا أستطيع أن أبتعد عنه رغم هذه السنوات الطويلة التي أمضيتها فيه.



