تظل قيمة الأدب الخالد مرتبطة بكونه أدبًا إنسانيًا يناقش قضايا كبرى من نوعية: الإيمان والشك، الخطيئة والتوبة، الشهوة والتطهر، وكذلك: الإثم والغفران، الخير والشر.. وبهذا المفهوم، يكون الأدب الروسي عظيمًا وخالدًا، لا سيما “أدب القرن التاسع عشر” والذي يُعد بحق هو العصر الذهبي لهذا الأدب الروسي، فهو القرن الذي شهد إلغاء نظام الإقطاع، والشغف بالعلم، والرغبة في الارتقاء، مع الإفادة من المنجزات العلمية والفكرية والفنية للغرب الأوروبي.
وربما يعود إعجابنا كعرب بالأدب الروسي إلى إمتلائه بما يتجاوب مع المزاج الشرقي مشبوب العواطف، ولذا فطن الأدباء والنقاد العرب إلى هذه المزية، فكثرت حركة ترجمة هذا الدب إلى العربية منذ بدايات القرن العشرين، حيث ترجم الأديب المصري الكبير إبراهيم عبد القادر المازني رواية “سانين” لـ “أرتز باشيف”، وترجمة الدبلوماسي السوري سامي الدروبي لروايات “دوستويفسكي”، إضافًة إلى ترجمة الناقد المصري الكبير د. شكري عياد رواية “دخان” لـ “تورجنيف”، و إدوار الخراط للأجزاء الأولى من رواية “الحرب والسلام» لـ “تولستوي”، فضلًا عن ترجمة الناقد الكبير د.علي الراعي لمسرحية “الشقيقات الثلاث” لـ “تشيكوف”، وترجمة أدونيس لقصائد “باسترناك”، وغيرها الكثير من الترجمات. التي تزامنت معها كتب كاملة وفصول ومقالات عن أعلام الأدب الروسي بأقلام نقاد وباحثين من مختلف البلاد العربية، لا سيما في فترة صعود المد الاشتراكي في خمسينات وستينات القرن العشرين.
ويحدثنا التاريخ أنه في عام 1989م، أصدرت مطبعة كامبردج البريطانية كتاباً مهماً يرصد مسيرة الأدب الروسي حرَّره “تشارلز موزر” تحت عنوان “تاريخ كمبردج للأدب الروسي”، وفيه تتبع المحرر مساراً زمنياً، مقسماً هذا الأدب إلى حقب: الجذور الدينية والفلكلورية للأدب، ثم الأدب السوفيتي الخاضع لسيطرة آيديولوجية الدولة.
وبعد ما يقرب من 34 عاماً، صدر عن نفس الجهة وفي نفس السياق كتاب جديد في نحو 900 صفحة بعنوان “تاريخ كمبردج الجديد للأدب الروسي”، والذي اشترك في تحريره كلاً من: “ربيكا ريتش”، و”سيمون فرانكلين”، و”ج. ويديس”، ليكون بذلك هو العمل الأول الذي يرصد مسيرة الدب الروسي في القرن الحادي والعشرين.
وقد تضمن الكتاب الجديد أربعة أقسام هي: حركات- آليات- أشكال- أبطال، وذلك عبر العديد من المقالات في كل قسم، واللافت للنظر أن الكتاب تطرق إلى أربع من كبار الأدباء الروس (بوشكين- جوجول- ديستوفسكي- تولستوي)، ولكنه أغفل – بما يشبه الخطأ الفادح في رأيي- “تشيكوف”.. سيد القصة القصيرة في الأدب العالمي برمته، وليس الروسي فقط؟!!.
وإذا أردنا إلقاء الضوء سريعًا على نخبة النخبة من أدباء روسيا العظام، يمكن أن نرصد خمسة منهم بحسب الترتيب الزمني، وهم:
(1) “ألكسندر بوشكين” (1799 – 1837م):
هو بلا شك شاعر روسيا الأكبر، وهو أيضاً كاتب مسرحي، وروائي في الحقبة الرومانسية، وهو يُعتبر بحق رائد الأدب الروسي الحديث.
تميز “بوشكين” بغزارة إنتاجه الأدبي – شعراً ونثراً- رغم وفاته الدرامية في الـ (38) من عمره، كما كان واسع الاطلاع على أدباء أوروبا الكبار، مثل: “وليم شكسبير”، و”بايرون”، و”والتر سكوت”.
ومن أهم أعماله: “يوجين أونيجين”، و”الفارس البرونزي”، و”افورة الدموع” ، وغيرها.
(2) “نيقولاي جوجول” (1809 – 1852م):
يُعد من أبرز آباء الأدب الروسي، والذي قيل عنه أن كل الأدباء الروس خرجوا من تحت معطفه.
ولد “جوجول” في أوكرانيا (الروسية)، وعمل لفترة موظفاً حكومياً، وكذلك أستاذاً للتاريخ بجامعة “بطرسبرغ”. وفي مسرحيته الشهر “المفتش العام”، أدان الفساد البيروقراطي، كما صور الاضطرابات النفسية والعقلية في “مذكرات مجنون”، كذلك جنح إلى الإغتراب الفانتازي الذي في قصته “الأنف”. من أشهر أعماله: رواية “النفوس الميتة”، والقصة القصيرة “المعطف”.
(3) “فيودور ديستوفسكي” (1821 – 1881م):
هو ذلك الروائي وكاتب القصص القصيرة والصحفي والفيلسوف الذي يُعد من أشهر الأدباء حول العالم، إذ تحوي رواياته فهمًا عميقًا للنفس البشرية وتقدم تحليلًا ثاقبًا للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في القرن التاسع عشر، فضلاً عن التعامل مع مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والدينية.
ويمثل “ديستوفسكي” الرواية الدرامية في أبهى صورها، إذ تمتلئ بالوجودية المعذبة بقضايا الهوية، والعلاقة بالآخر، والإيمان والإلحاد.
ومن أبرز أعماله: “الأخوة كارامازوف”، و”الجريمة والعقاب”، و”مذكرات من تحت الأرض”، وغيرها.
(4) “ليو تولستوي” (1828- 1910م):
هو ليس روائياً عملاقاً في تاريخ الأدب العالمي والروسي فقط، بل هو كذلك مصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي، وقد بلغت شهرة رواياته أنحاء العالم كله بعشرات الترجمات للغات الأخرى.
ومن أشهر أعماله الملحمية: روايتا “الحرب والسلام”، و”أنا كارنينا”، واللتان تتربعان على قمة الأدب الواقعي، إذ تعطيان صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية من القرن التاسع عشر، كما أنه كان معجباً بشدة بالنبي الكريم – صلى الله عليه وسلم- واعتبره مثلاً أعلى في تاريخ الإنسانية، حتى أن له كتاب شهير عن النبي الكريم بعنوان “حِكم النبي محمد” تمت ترجمته إلى العربية في بدايات القرن العشرين.
وقد أشتهر “تولستوي” بأنه فيلسوف أخلاقي اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف وتبلور ذلك في كتابه الشهير “مملكة الرب داخلك”، والذي أثر في قلوب وعقول مشاهير القرن العشرين، مثل: المهاتما غاندي، و”مارتن لوثر كينج”.
(5) “أنطون تشيكوف” (1860 – 1904م):
يعتبر من أعظم الكُتاب الروس والعالميين على الإطلاق، ويكفي أنه “كبير القصة القصيرة” عالميًا إذ تُعتبر العشرات منها إبداعات فنية كلاسيكية تشبه الأيقونات، كما أن مسرحياته الكلاسيكية كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين. بدأت رحلة “تشيكوف” الإبداعية عندما كان طالبًا في كلية الطب في جامعة موسكو، والغريب أنه جمع بين الطب والكتابة ولم يتخل عنهما، إذ كان يردد دائماً: ” إن الطب هو زوجتي، والأدب عشيقتي”.
من أبرز مسرحياته: النورس- العم فانيا- الأخوات الثلاث- بستان الكرز، فيما أوجد أسلوبه الخاص في بنية القصة القصيرة التي تميز فيها للغاية من نوعية استخدامه لتقنية تيار من شعور الإنسان، استخدمها فيما بعد “جيمس جويس” وأخرون، كما كانت له رؤية فنية تستحق الإعجاب مفادها أن دور الفنان هو طرح الأسئلة وليس الرد عليها. ومن أبرز قصصه القصيرة: الرِهان- حياتي- ثلاث سنوات- إلى جدي العزيز- فانكا- مبارزة.
كما كان لـ “تشيكوف” نصيب معتبر في كتابة الرواية، ومن أشهرها: وفاة موظف- المحار- الصيادون- الحرباء- قناع- الرقيب بريبيشتشيف- حورية البحر- البداية- الراهب الأسود.
(*) كاتب وصحافي مصري