في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها قطاع الرعاية الصحية، تلوح في الأفق أزمة صامتة لكنها عميقة، يعاني منها الأطباء والممارسون الصحيون بشكل يومي، وهي الاستغلال القضائي غير المنضبط لمنظومة الأخطاء الطبية.
لقد أصبحت قاعات المحاكم في كثير من الحالات ساحة استنزاف، ترفع فيها بعض الدعاوى التي لا تبنى على أساس علمي أو مهني سليم، بل تستغل كوسيلة للكسب غير المشروع، على حساب كرامة الطبيب، واستقراره النفسي، وجودة الرعاية المقدمة لبقية المرضى.
الواقع المقلق
باتت الضغوط القضائية تشكل عبئاً إضافياً على الأطباء، لا بسبب ممارسات خاطئة، بل نتيجة السهولة المفرطة في اتهامهم بأي نتيجة علاجية غير متوقعة، حتى وإن كانت مبررة طبياً وضمن الاحتمالات المعروفة.
ويزداد العبء حين يستدعى الطبيب للمثول أمام القضاء دون أن تراعى التزاماته المهنية؛ إذ تحدد مواعيد الجلسات غالباً دون أي اعتبار لجدول عملياته، أو مراجعات مرضاه، أو مواعيد عياداته، ما يضطره إلى تعليق واجباته الطبية وتعريض مرضى آخرين لمخاطر غير مبررة، في تضارب صارخ مع جوهر مهنته الإنسانية.
ومع غياب إدارات قانونية متخصصة تمثل الممارسين، يجد الطبيب نفسه في مواجهة منفردة مع جهاز قضائي قد يفتقر في أحيان كثيرة إلى التقدير العلمي لطبيعة المهنة وتعقيداتها.
شركات التأمين الغائبة عن المشهد
رغم أن نظام التأمين المهني يلزم الطبيب بتسديد اشتراكات سنوية، إلا أن شركات التأمين تتخلى عن واجبها الأساسي في الدفاع عن المؤمن عليه.
فلا توفر له مستشاراً قانونياً، ولا تغطي تكاليف المحاماه، ولا تحضر بجانبه في مراحل التحقيق الأولى، وكأن وثيقة التأمين أُبرمت لغرض التحصيل المالي فقط دون التزام عملي تجاه من تحمل اسمه.
الحل المقترح: حوكمة قانونية مستقلة بتمويل تأميني
إن الضرورة باتت ملحة لتصحيح هذا الخلل، من خلال إعادة تعريف العلاقة بين الممارس الصحي وشركة التأمين، عبر استحداث إدارات قانونية مستقلة تمول من عوائد وثائق التأمين المهني، وتدار بالشراكة بين:
• شركات التأمين (جهة تمويل)
• التجمعات الصحية (جهة إشراف وتمثيل للممارسين)
• وزارة العدل (ضمان للعدالة القانونية)
مع اختيار الكوادر القانونية والإدارية عبر لجان محايدة لضمان الكفاءة والنزاهة.
مهام الإدارات القانونية المقترحة
1. فرز القضايا وتمييز الكيدية من الحقيقية بناءً على أسس علمية ومهنية.
2. تمثيل الطبيب قانونياً من لحظة تقديم الشكوى حتى انتهاء إجراءات التقاضي.
3. التنسيق مع الجهات القضائية لضمان عدم تعارض الجلسات مع جداول العمليات والعيادات.
4. اقتراح حلول وتسويات عادلة تحقق إنصاف المتضرر وتحمي سمعة الطبيب.
5. تقديم الاستشارات الوقائية والتوعوية للممارسين الصحيين.
الفوائد المنتظرة من الحوكمة الجديد:
• توفير بيئة مهنية آمنة تعزز ثقة الطبيب بنفسه وبنظام العدالة.
• الحد من استغلال القضاء كمصدر للكسب غير المشروع.
• تحسين جودة الرعاية الصحية من خلال تقليل الضغط النفسي على مقدمي الخدمة.
• ضمان التوازن بين حقوق المرضى وحقوق الأطباء.
• دعم ثقافة التحقيق العلمي الموضوعي في الأخطاء الطبية.
وختاماً، لا يمكن بناء منظومة صحية متقدمة دون عدالة مهنية تضمن للطبيب حقه كما تضمن للمريض سلامته. فحين يجبر الطبيب على مغادرة غرفة العمليات لحضور جلسة قضائية مجدولة بلا اعتبار، أو يترك دون تمثيل قانوني حقيقي، فنحن لا نخذله فقط، بل نفرغ الطب من معناه، والرعاية من إنسانيتها.
إن تفعيل الدور القانوني لشركات التأمين، وتأسيس إدارات قانونية مهنية، يمثل حجر الزاوية في حماية مقدمي الرعاية الصحية، وضمان استمرارية الطب كرسالة، وليس كمصدر تهديد دائم للممارسين فيه.
الطبيب لا يحتاج حصانة، بل عدالة.
والتأمين الطبي المهني يجب أن يتحول من وثيقة صامتة إلى مظلة حقيقية تقي الأطباء من العواصف المضللة.
• عضو هيئة تدريس – جامعة المؤسس


