منذ نشأته، لم يعتمد الكيان الصهيوني فقط على القوة العسكرية المباشرة لتأمين وجوده وسط بحر من الشعوب الرافضة له، بل تبنّى سياسة أخطر وأكثر تعقيدًا:
إدارة الصراع لا إنهاؤه، وضبط إيقاع خلق الأعداء بدل الدخول في معركة مفتوحة مع الجميع.
صناعة خطوط الدفاع عبر الطوائف
في العقود الماضية، دفع الكيان الصهيوني—بشكل مباشر أو غير مباشر—المنطقة إلى صراعات طائفية مذهبية.
كان الهدف أن ينشغل الشرق الأوسط بنفسه، ويتحول الصراع الأساسي من قضية فلسطين إلى معارك داخلية.
منذ 2003، برز المكوّن الشيعي باعتباره—بفعل الأحداث وتدخلات القوى الدولية—خط الدفاع الأول الذي جرى دفعه لمواجهة العالم السني.
حصل ذلك عبر تغذية الصراع الطائفي في العراق، ثم في سوريا ولبنان واليمن، حتى باتت إيران وقوى الممانعة هي “العدو الأول” لكثير من الشعوب العربية والإسلامية، بينما تراجعت إسرائيل عن موقعها كعدو رئيسي في المشهد.
من الشيعة إلى الدروز: تبديل المواقع
اليوم، وبعد استنزاف الورقة الشيعية وتحوّلها إلى عبء على بعض القوى الكبرى، بدأ الكيان الصهيوني في نقل ثقل الدعم والتواصل إلى مكوّنات أخرى.
التركيز الآن على الطائفة الدرزية، خاصة بعد الأحداث الأخيرة في السويداء جنوب سوريا.
الكيان يقدّم دعماً محدودًا ومدروسًا للدروز، ليس بدافع الحماية الحقيقية لهم، بل بهدف تحويلهم إلى خط دفاع أول جديد، أمام العالم الإسلامي السني والشيعي على حد سواء.
بهذه الطريقة، يعمل الكيان الصهيوني على:
• تقديم نفسه للعالم كـ”ضامن للأقليات”.
• تأمين حدود الجولان عبر وجود شريط طائفي حليف أو محايد.
• خلق حالة من التشابك بين الأقليات والطرف الصهيوني، ليصبح الدفاع عن الكيان مرتبطًا—ولو ضمنيًا—بدفاع هذه الأقليات عن وجودها.
• تفكيك المنطقة لصالح البقاء الصهيوني
الاستراتيجية الصهيونية ليست جديدة؛ إنها استمرار لسياسة قديمة قامت على تفكيك المجتمعات العربية إلى طوائف وإثنيات متناحرة، بحيث يتحول كل طرف إلى عدو محتمل للآخر، ويصبح الكيان هو الطرف الذي “يُدير اللعبة”، لا من يواجهها.
الشيعة كانوا في مرحلة، الدروز في مرحلة أخرى، وربما ستُستدعى أقليات أخرى لاحقًا حسب مقتضيات الظرف.
الكيان الصهيوني لا يخلق الأعداء ليواجههم، بل ليُدير صراعهم.
وهو لا يدعم طرفًا بدافع إنساني أو أخلاقي، بل ليجعل منه حاجزًا يحمي حدوده على حساب دماء المنطقة.
إن تفكيك هذه الاستراتيجية وكشفها للرأي العام، هو الخطوة الأولى لفهم ما يجري… ولبناء مشروع وطني جامع يرفض الوقوع في فخ التطييف والتقسيم.