المقالات

تعليم جدة وإدارة المخاطر بذكاء تنظيمي

إن استنهاض الهمم واستلهام المنجزات يشكّلان حافزًا فاعلًا لانطلاقة جادة لعام دراسي جديد، يُجسّد الطموحات ويعزّز روح الالتزام والتميز ويُحقق التطلعات الوطنية ضمن مستهدفات رؤية المملكة 2030، التي جعلت من التعليم ركيزة رئيسية للتنمية المستدامة. حيث تشهد وزارة التعليم مرحلة تحول نوعي غير مسبوقة، تسعى من خلاله إلى إعادة بناء نموذج إداري وتعليمي أكثر كفاءة ومرونة واستدامة.
وسط هذا المشهد التحولي، قدّمت الإدارة العامة للتعليم بمحافظة جدة نموذجًا رياديًا في التفاعل مع المتغيرات، من خلال تبني إدارة ذكية للمخاطر، حوّلت التحديات التنظيمية والميدانية إلى فرص تطوير ملموسة. ويستند هذا التميّز إلى رؤية قيادية واعية، حيث لم تتعامل الإدارة مع التغيير كحدث مفاجئ، بل يُنظر إليه كمشروع استراتيجي مؤسسي متكامل، يستند إلى منهجية تحليلية دقيقة، ويتطلب توفر أدوات تحليل نوعي وكمّي، واستعداد مؤسسي شامل، وآليات فعّالة لضمان استمرارية الأعمال. كما يفتح المجال أمام توليد فرص إيجابية ذات أثر مستدام، ويُعزز من توثيق التجارب الناجحة بوصفها نماذج قابلة للتكرار والتطوير في سياقات مماثله.
وفي هذا السياق، أظهرت نتائج دراسة أُجريت عام 2024 على قيادات تعليم جدة أن مجمل القيادات تتمتع بخبرات متراكمة وديناميكية عالية في التعامل مع الأزمات والمخاطر، مما أسهم بشكل مباشر في تحسين مخرجات الأداء المؤسسي، وتعزيز قدرة التعليم على تجاوز التحديات بفعالية وتحويل المخاطر الى فرص. وأكدت الدراسة أن الدمج الفاعل بين الخبرة والذكاء القيادي لعب دورًا محوريًا في تحويل ملفات مزمنة إلى نماذج للنجاح، من أبرز الملفات التي شهدت تحولًا نوعيًا، ملف المدارس المسائية، الذي ظل يمثل تحديًا قائمًا لأكثر من 30 عامًا. فقد اتخذت الإدارة قرارًا استراتيجيًا بإنهاء العمل بها، وذلك بعد إجراء دراسة تشغيلية متعمقة وتحليل نوعي لمستويات الاستخدام والأثر التعليمي. وقد تم استثمار المباني التعليمية بشكل مثالي لاستيعاب جميع الطلاب في الفترة الصباحية، بما يضمن كفاءة التشغيل ورفع جودة العملية التعليمية.
ولم تقف الجهود عند حدود الإلغاء، بل بادرت إدارة تعليم جدة بإطلاق “مبادرة القسائم التعليمية” بالتعاون مع القطاع الخاص، كحل ابتكاري ونوعي يستهدف الفئات التي قد تتأثر بهذا التحول. ويجسّد هذا التوجه نموذجًا لتفكير تطويري قائم على الحلول الإبداعية لا على ردود الأفعال. وفي عام 2025، أُعلن رسميًا عن إنهاء العمل بالمدارس المسائية بشكل كامل، بفكر قيادي تعليمي يمتلك أدوات تحليلية ومرونة استراتيجية في اتخاذ القرار، بما يعزز كفاءة التعليم واستدامته.
ومن الأمثلة البارزة على النجاح، تميز تعليم جدة في إدارة ملف تطوير الأحياء العشوائية، حيث تعاملت مع التحولات السكانية الناتجة عن الإزالة باحترافية عالية. حيث أُعيد توزيع المدارس والكوادر التعليمية لضمان استمرارية التعليم في الاحياء المتأثرة، مع استيعاب الطلاب في مرافق بديلة بكفاءة تشغيلية تعكس مرونة البنية الإدارية وسرعة الاستجابة.
وعندما انطلقت المرحلة التنفيذية لخطة التحول لوزارة التعليم، كان تعليم جدة على جاهزية عالية، حيث تمّت دون إرباك تنظيمي. وأعاده توزيع المهام بوضوح وفق الدليل التنظيمي المحدث، واستُثمرت الكفاءات القيادية في مواقع محورية مثل الإشراف التربوي والتميز المدرسي والقيادة المدرسية، كل ذلك تم بدعم أدوات علمية مثل تحليل السبب الجذري، تقييم الأثر، وتمارين المحاكاة للعمليات، ما عزز موثوقية القرارات وسهّل التنفيذ في الميدان.
كما جرى التعامل مع مخاطر إضافية بمرونة ووعي؛ كضعف التواصل المؤسسي الذي عُولج بفتح قنوات اتصال داخلية وميدانية، وتفعيل منظومة أرشفة إلكترونية لحماية الوثائق، إلى جانب تنفيذ برامج دعم نفسي ومهني للموظفين، أنتج عدة مبادرات نوعية، من أهمها “مواهب شاغلي الوظائف التعليمية”، و”مسار التكيف”، مما ساعد في الحفاظ على الاستقرار الوظيفي ورفع المعنويات. وقد انعكست هذه الاستراتيجية في نتائج ملموسة على الأداء العام، تمثلت في ضمان استمرارية العمل خلال التغيير، وتسريع إنجاز المهام، وتحقيق التكامل بين الإدارات، ورفع مؤشرات رضا الموظفين والمستفيدين، إلى جانب انخفاض النزاعات الوظيفية والتقاعد المبكر والاستقالات.
تُظهر تجربة الإدارة العامة للتعليم بمحافظة جدة أن إدارة المخاطر والازمات، حين تُدمج في صلب التفكير الإداري، لا تكون مجرد أداة وقائية، بل تتحول إلى أداة استراتيجية تصنع الفارق، وتُسهم في بناء منظومة تعليمية مرنة، قادرة على التكيّف مع التغيير، ومؤهلة لتحقيق استدامة الإنجاز. أن هذا النموذج يُجسّد تجربة وطنية رائدة تستحق التوثيق والاستفادة، لما ينطوي عليها من فكر قيادي متقدّم، يرتكز على الجاهزية الاستباقية، والتحليل العميق، والابتكار النوعي في مواجهة التحديات وتحويلها إلى فرص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى