المقالات

في مدينتنا فأرة…

انتقلت راوية للعيش في مدينة ساحلية حالمة. اختارتها بقلبها لا بعقلها، فقد جمعت بين البحر والتاريخ والطبيعة، وكأنها رُسمت على خارطة الأمنيات. استقرّت في بيت صغير يُشبه أحلامها، يطلّ على شارع هادئ، تطلّ منه كل صباح، تراقب المارة، وتبتسم لطفل يركض، ولشباب يتمازحون، ولأصدقاء يضحكون بأصوات خفيفة تمرّ كنسيم البحر.

شيئًا فشيئًا، بدأت راوية ترسم تفاصيل يومها بدقة العاشق. تستيقظ باكرًا لتتناول قهوتها في أحد مقاهي المدينة الصغيرة، تختار دائمًا الزاوية ذاتها، تطلب القهوة وبعض المخبوزات، تبحث بعينيها عن تلك المحشوة باللوز، تعشقها كما تعشق سكون هذا المكان. تجلس لساعات دون أن تشعر بمرورها، تشمّ رائحة البن، وتستعيد ذكرياتها، وتخطط لأيامها القادمة.

استمرت على هذا النهج، لا تغيّر منه سوى لمسات بسيطة في نهايات الأسبوع: تشتري الورد كل جمعة ليُضيء بيتها، وتدلّل نفسها بعشاء فاخر في أحد مطاعم المدينة.

بمرور الوقت، بدأت الألفة تنسج خيوطها. صارت الوجوه مألوفة، الابتسامات تتكرّر، والأحاديث البسيطة تنمو شيئًا فشيئًا. كوّنت صداقات: جارتها الإنجليزية التي تشرب معها القهوة كل صباح، وجارات عربيات يجتمعن أسبوعيًا، وجارات الحي المجاور اللواتي تشاركهن لقاءات شهرية. شعرت راوية بأن المدينة فتحت لها ذراعيها، وبأن الدفء الحقيقي يسكن بين الناس.

ذات يوم، غابت راوية. لم تستطع مغادرة سريرها؛ أعياها المرض، وأنهكها التعب. لم تطلب المساعدة، كما اعتادت. الوحدة كانت أثقل من الحمى، والغربة أشدّ من الألم. قاومت طوال الليل حتى بزغ الفجر، فجمعت ما تبقى من قوتها وحاولت التوجّه إلى المستشفى القريب.

بعد أيام من التعب، استيقظت على جرس الباب. لم تستطع فتحه فورًا، لكنها حين وصلت، وجدت جارتها تنظر إليها بقلق. لاحظت شحوب وجهها، دخلت، رتّبت المنزل، أعدّت الإفطار، وملأت المكان برائحة حنان لم تذقه راوية منذ زمن. شعرت راوية بتحسّن، ليس فقط من الدواء، بل من دفء العلاقة التي ظنّت أنها لا تزال بخير.

عادت الحياة كما كانت… لبعض الوقت.

لكن الزمن، كعادته، لا يُبقي شيئًا على حاله.

مرّت سنة، وإذا بكل شيء بدأ يتغير.

جارتها الأقرب تمرّ بجانبها دون تحية. جارتها الأخرى لا تردّ على اتصالاتها. صديقتها في الحيّ المقابل تعتذر عن زيارات نهاية الأسبوع التي استمرت عامًا كاملًا. لم تعد الدعوات تأتي، ولم تعد الضحكات تُسمع. حتى المخبز الذي كان شاهدًا على صباحاتها، شهد تجاهلًا من إحدى جاراتها التي أدارت وجهها وكأنها لا تعرفها.

تراكمت المواقف، وتحولت إلى جدران صلبة من الجفاء. تساءلت راوية كثيرًا: “ماذا حدث؟ ما الذي تغيّر؟”

وفي ليلة غائمة، اختفت راوية.

لم تُرَ في المقهى، ولا في المخبز، ولا حتى خلف شرفتها الزجاجية. قيل إنها رحلت، وقيل إنها مرضت، لكن الحقيقة الوحيدة أن راوية اختارت الغياب.

مرّت أسابيع، وبدأت الشكوك تتسرّب إلى القلوب. لاحظ الجيران تغيّر بعضهم، وبدؤوا يتساءلون عن سرّ الجفاء والفتور.

حتى وقعت عينهم على الجارة الجديدة.

كانت تُدعى اسمًا بالكاد يُذكر، لكن الناس ينادونها بألقاب الودّ: “الحنونة”، “اللطيفة”، “صاحبة الكرم”. دخلت بسرعة، وتسلّلت إلى القلوب كما تتسلّل قطرات الماء في الشقوق القديمة. كانت في كل مكان، في كل مناسبة، تضحك مع هذا، وتساعد ذاك، وتنصح تلك، لكن كلامها كان يُزرع خلف الأبواب، وينمو كالأعشاب الضارّة.

كانت تقول ما لا يُقال، وتُلمّح بما لا يُثبت، وتُلقي الكلام على عواهنه، حتى بدأ الناس يشكّون ببعضهم. لم تُصرّح بشيء، لكنها حرّضت على كل شيء. لم تذمّ أحدًا، لكنها أوصلت للجميع ما يثير الشكوك حول بعضهم، حتى باتوا ينظرون لبعضهم كما لو كانوا غرباء.

ثم عادت راوية، ولكن ليس إلى ذات الحيّ.

ظهرت في حيّ آخر، بعيد عن الأحاديث، بعيد عن الظلال. هناك، التقاها بعض جيرانها القدامى، فتحدّثوا، وافترشت الحقيقة في منتصف الجلسة. عرف الجميع ما فعلته من لا يُريدون حتى تذكّر اسمها، وكيف كانت تنقل الكلام، وتلوّنه، وتزرع الشك في القلوب دون أن يدروا.

انكشفت الفأرة لكن السمّ الذي زرعته بقي في الهواء. لم تعد المدينة كما كانت؛ لا الأصوات، ولا الأرواح، ولا الملامح. شيء ما كُسر، وظلّ الكسر مرئيًّا حتى بعد أن اختفت “الجارة الجديدة” كما ظهرت: دون أثر.

وفي شرفة بيتها الجديد، جلست راوية تنظر من خلف زجاج النافذة، تراقب غروب الشمس، وتهمس لنفسها:

في مدينتنا فأرة… ظهرت بشكلٍ لطيف، لكنها تسلّلت إلى الأرواح، وعبثت بالخيوط، وغادرت بعدما خلّفت وراءها رائحة لا تُمحى، وجدرانًا صامتة لا تعرف الودّ كما كانت.

• محاضرة في جامعة جدة
باحثة دكتوراه في المملكة المتحدة

منى يوسف الزهراني

محاضر جامعة جدة- باحثة دكتوراة في المملكة المتحدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى