نشارف على نهاية العام الدراسي، وستنتهي الإجازة الصيفية كذلك. وسنبدأ قريبًا عامًا دراسيًا جديدًا. وكما في كل عام، يستعد الأهالي، والمؤسسات التعليمية، والمجتمع بأسره، لبداية عام دراسي جديد، وتبدأ الخطط، وترتفع الهمم، لرسم معالم العام الدراسي بكل تفاصيله. لكن ما إن يبدأ العام حتى يبدأ الطلاب في الغياب، أو حتى التخطيط له، بموافقة الأهل، وحضورهم، بل وفي كثير من الأحيان بعدم اعتراضهم، وكأن الرسالة واضحة: “السنة طويلة، ولا بأس من غياب يوم أو أسبوع”.
وقد يظن البعض أن غياب اليوم أو الأسبوع لن يؤثر في مستقبل الطالب، أو في كونه طبيبًا أو مهندسًا أو طيارًا مستقبلاً. لكن الواقع أن ما يحدث في هذه اللحظة يتجاوز الغياب المؤقت؛ إذ يتبنى الطالب – مهما كان عمره أو مرحلته الدراسية – فكرة عدم الالتزام، ويبدأ في التقليل من قيمة التعليم والمقعد الدراسي الذي يشغله. يتحوّل من طالب حريص على التعلم، إلى شخص يبحث عن أسهل الطرق للتملّص من مسؤولياته، ويقدّم أقل جهد ممكن للوصول إلى هدفه.
ولعل ردة فعل الأهل في المرة الأولى التي يتغيب فيها الطالب، هي ما تحدد مسار سلوكه المستقبلي. فإن وجد التهاون أو حتى التشجيع غير المباشر، فسيفهم أن ما يفعله هو الأصل والمنهج الصحيح في الحياة. أما إذا كانت ردة الفعل حازمة، قائمة على التوجيه والرفض لمثل هذا السلوك، فسيدرك أن المدرسة ليست مجالًا للتهاون، بل ميدانًا للالتزام، وأن مستقبله يتحدد من خلالها.
ولا تُعفى البيئة التعليمية من مسؤوليتها في هذه المسألة. فإعداد جدول زمني يتلاءم مع واقع المجتمع واحتياجاته، من شأنه أن يشجع على الالتزام، ويحفز أولياء الأمور على دعم أبنائهم في الانتظام بالحضور. كما أن خلق بيئة تعليمية تجمع بين التعليم والترفيه، وتضم أنشطة بدنية وذهنية متجددة، يعزز من قيمة الحضور، ويجعل من المدرسة مكانًا جاذبًا لا طاردًا.
هنا يتجلى دور المعلم والإدارة التعليمية، من خلال تقييم العام الدراسي، ومتابعة حضور الطلاب، وإشراك الطلاب والأهالي في فهم أسباب الغياب، وتقديم مقترحات لتفادي تكراره. ولا يمكن إغفال الدور الحيوي الذي يلعبه الإعلام في دعم التعليم، وإبراز قيمته، وتوعية الطالب وولي الأمر بأهمية الالتزام، عبر التثقيف لا الإجبار، وعبر تسليط الضوء على الواقع التعليمي من الميدان، ونقل الصورة كما هي إلى صناع القرار، بكل شفافية ومسؤولية.
إن صناعة المستقبل تبدأ من لحظة جلوس الطالب على مقعده الدراسي، أمام معلمه وسبورته. فإذا نجحنا في صناعة طالب ملتزم، معتز بتعليمه، فإننا نضمن مستقبلًا أفضل، ومجتمعًا أكثر وعيًا، وسواعد تبني وتنهض بالأوطان. فالبناء يبدأ من الأساس، وإن اختل هذا الأساس، يصعب تعديل الهيكل بعد اكتماله، بل قد يبدو مشوّهًا، مهما حاولنا إصلاحه.
تعاون الجميع، من طالب، وأهل، ومعلم، وإعلام، وصنّاع قرار، هو ما يمكن أن يعزز من الحضور والالتزام، ويصنع بيئة تعليمية ناجحة، قائمة على التوجيه والتوعية والتحفيز. فالسنة قد تكون طويلة، لكن غياب يوم أو أسبوع، قد يُغيّب إنسانًا عن الالتزام لبقية حياته، على المستويين الشخصي والمهني.
السنة طويلة، لكن غياب يوم أو أسبوع يغيب حضورًا ووعيًا طيلة العمر ويترك أثرًا لا يُمحى في مسيرة الإنسان.
• محاضرة في جامعة جدة
باحثة دكتوراه في المملكة المتحدة
كلام رائع ورساله في الصميم ،
اتمنى تصل إلى الاهالي وتلقى قبول.
كلام واقعي جداً ، ومؤثر ، وبين دور الاهل والمدرسه في تاثير الغياب بشكل مبسط وواضح
شكراً دكتوره منى
كلمات تخاطب الواقع المر المتمحور حول فكرة الغياب و خلق بذرة عدم الالتزام و اللامبالاة في نفس الطالب، للأسف سمعتُ كثيرًا من القصص حول اعتماد الطلاب والطالبات في مراحل التعليم العام فكرة غياب يوم الخميس حتى أن بعض الآباء و الأمهات يصطحبون أبناءهم للمدارس (يوم الخميس) ليتفاجؤوا باتصال من إدارة المدرسة تطلب منهم العودة لإعادة الطالب للمنزل حيث أن اليوم الدراسي ألغي بسبب التغيب الجماعي للطلاب والطالبات. واقع لابد من إعادة تشكيله بالتعاون الفعّال مابين الوزارة والمعلم والإدارة المدرسية والإدارة المنزلية. شكرًا أستاذة منى على المقال الجميل. وفقك الله.