نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية… هكذا قال أبو العتاهية منذ قرون، وما زالت كلماته تلك تقرع أبواب الوعي، وتضع الحقيقة في وجه الزيف، والعِبرة في قلب الغافل.
حين يولد الإنسان، لا تسبقه راية، ولا يُستقبل بتصفيق، لا تميّزه عمامة، ولا تُسجَّل على جبينه رتبته الاجتماعية. يولد كما يولد أي إنسان، صارخًا يبحث عن دفء، وعن حضن أمه. لا يعرف المجد، ولا الفقر، ولا الأصل، ولا الفرع. فهو مجرد زائر جديد.
لكن ما إن يمشي أولى خطواته في هذه الحياة، حتى يبدأ من حوله في صناعة الفوارق بينه وبين أقرانه. تُفرَض عليه طبقاتٌ من التمييز: من النسب والحسب، ومن المال والجاه. فيُرفع هذا، ويُداس ذاك، وكأنهم لم يولدوا جميعًا عُراة، ضعفاء، يبكون لذات السبب، ويرتجفون من ذات البرد.
بيت أبي العتاهية هذا لا يمرّ كحكمة تُروى فحسب، بل هو مرآة للضمير الإنساني. يوقظ فينا سؤالًا بطعم العلقم: إن كنا فعلًا نأتي سواسية، فلماذا نعيش بتعالٍ وتمييز؟ لماذا نُقيّم الناس بما يملكون، لا بما يكونون؟ ولماذا ننسى أننا – مهما علت بنا الدنيا – سنعود يومًا سواسية تحت التراب أيضًا؟
في زمنٍ تعاظمت فيه الفروقات بين البشر، وتكاثرت فيه الألقاب، يبقى هذا البيت شعلة لا تنطفئ، بأن الأصل في الإنسان إنسانيته، لا لقبه، ولا نسبه، ولا حسابه البنكي. فالمقياس الحقيقي للرفعة ليس ما نملكه، بل ما نمنحه لمجتمعنا وللناس أجمعين، وما نتركه من أثر بعد رحيلنا.
لقد قالها أبو العتاهية، ومضى. لكن كلماته – وكما قلت – بقيت، لأن فيها صدقًا يوقظ، وبساطةً تفجّر الوعي، وميزانًا يعيد لكل إنسان قيمته، مهما كانت مكانته.
ولكم تحياتي

