شهدت العاصمة الحبيبة الرياض في السنوات الأخيرة ظاهرة اجتماعية واقتصادية وثقافية لافتة، تتمثل في الانتشار الكثيف للمقاهي أو ما يعرف بالكوفيات في شوارعها وأحيائها، حتى أصبح من المألوف أن نجد في الحي الواحد، وأحيانًا في الشارع ذاته، عدة مقاهٍ متجاورة أو متقاربة المسافة، جميعها تعج بالزبائن من مختلف شرائح المجتمع، من شباب وشابات وعائلات ورجال أعمال وموظفين وطلاب جامعات، يلتقون فيها بصفة مستمرة لعقد اجتماعات العمل، أو اللقاءات الودية، أو جلسات الصلح بعد خلاف، أو لقاءات التعارف، أو توقيع العقود، أو حتى لتسلم الطرود البريدية. ووفقًا لتقارير اقتصادية حديثة، بلغ عدد المقاهي في المملكة نحو 5,109 مقاهٍ مسجلة رسميًا حتى منتصف عام 2023، أي بمعدل 159 مقهى لكل مليون نسمة، مع توقعات بأن يصل الرقم إلى 1,032 مقهى لكل مليون نسمة في إطار مستهدفات رؤية 2030. وتشير التقديرات إلى أن الرياض وحدها تحتضن ما يقارب 15 ألف مقهى ومطعم، وأن حجم سوق القهوة في المملكة مرشح لتجاوز 6 مليارات ريال بحلول عام 2027، مع استيراد ما يزيد عن 80 ألف طن من البن سنويًا وإنفاق يتجاوز 1.16 مليار ريال على القهوة، أي نحو 3.18 مليون ريال يوميًا. هذه الأرقام تكشف أن المقاهي لم تعد مجرد أماكن لتناول المشروبات، بل تحولت إلى ما يسميه علماء الاجتماع بـ”المكان الثالث” الذي يقع بين البيت والعمل، حيث يوفر بيئة مريحة وخصوصية نسبية ومساحة للتواصل. الدراسات الاجتماعية تؤكد أن سرعة وتيرة الحياة، وضيق الوقت، والرغبة في الخصوصية، والابتعاد عن أعباء الضيافة المنزلية التقليدية، كلها عوامل دفعت الناس إلى تبني المقاهي كمجالس عصرية، على حساب المجالس المنزلية التي أنفق أصحاب البيوت مئات الآلاف من الريالات على تجهيزها لتبقى في كثير من الأحيان شبه خالية. ومع أن هذه الظاهرة ساهمت في تنشيط قطاع الضيافة وخلق فرص عمل للشباب والشابات وتعزيز الحراك الثقافي والاقتصادي، إلا أنها في الوقت ذاته أدخلت على المجتمع السعودي أنماطًا وعادات جديدة لم تكن معهودة، مثل الحجز المسبق للطاولات، وتبادل الهدايا في الأماكن العامة، وتصوير اللقاءات وبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وبينما يرى المؤيدون أن المقاهي فضاءات حضرية تعزز الانفتاح وتبادل الأفكار، ويحذر المنتقدون من تراجع الدفء الاجتماعي وفقدان الحميمية التي ميزت الضيافة المنزلية لعقود طويلة، يبقى التحدي هو تحقيق التوازن بين الحفاظ على القيم والتقاليد الأصيلة والانفتاح على أساليب اللقاء الحديثة، بحيث نستفيد من إيجابيات المقاهي دون أن نخسر روح المجالس المنزلية التي شكلت قلب الحياة الاجتماعية السعودية.
• أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود






