المقالات

حين يثمر الغرس: من مقاعد الثانوية إلى منابر الثقافة

خلال عملي مديرًا لإحدى مدارس المرحلة الثانوية، وبينما كنت أمرُّ على قاعات الاختبار في الفصل الأول، لفت انتباهي تفاوت الطلاب في كتابة موضوع التعبير. بعضهم ينساب قلمه بخط جميل وفكر متدفق، وآخرون يغرقون في صمت طويل، يطيلون النظر في السقف وكأنهم يفتشون عن الفكرة في أعماق الغيب. ومن بينهم من اعتاد منذ الصف الأول على إمساك القلم بطريقة خاطئة فظلَّ أسيرها، ومنهم من تجاوز في كتابته أكثر من صفحتين، فيما آخر ما زال يتعثر في ربع الصفحة الأولى.

تذكرت حينها مقولة أحد زملائي من أساتذة اللغة العربية، وهو معلم سوداني فاضل: “التعبير أمُّ العلوم، وفيه يتجلى أثر كل علم في شخصية الطالب”. فخطر لي أن أكتشف أفضل ثلاثة طلاب في هذا الاختبار، وكلفت رئيس قسم اللغة العربية بالمهمة، فاجتهد معلمو القسم حتى رشحوا لي ثلاثة أسماء.

لكن ما أدهشني هو أحد هؤلاء الثلاثة؛ إذ وجدت نفسي أمام ورقة امتحان كأنها قطعة أدبية رفيعة، تزدان بالثراء الفكري، والاستشهادات الموفقة، وخط بديع، وأسلوب بليغ لا يكتب مثله إلا كبار الكتّاب. طلبت لقاء الطالب، فإذا به شاب متفوق دراسيًا، هادئ الطبع، يكسوه أدب جم. سألته بدهشة:
“من أين لك هذا الأسلوب يا بني؟”
ابتسم بأدب وقال:
“نحن أسرة قارئة، لدينا مكتبة كبيرة في البيت، ووالدي محب للكتب. وفي نهاية كل أسبوع، اعتدنا زيارة المكتبات.”

سألته عن سر غيابه عن الأنشطة الثقافية بالمدرسة، فأجابني بحزم:
“لا أشارك منذ المرحلة الابتدائية، ولا أرغب في المشاركة.”

حاورته طويلًا، وأوضحت له أن الفرصة سانحة في المرحلة الثانوية، وأنه قد لا يجد مثلها لاحقًا، وأن مستقبله الفكري قد يقوده لمقام القيادة أو التدريس الجامعي، لكنه ظل مصرًا على موقفه. هنأته على مستواه وودعته، لكنني لم أيأس من فتح باب جديد له.

وبعد أيام، وصلتنا مسابقة على مستوى تعليم جدة في الإلقاء الجماعي. طلبت من مشرف البرنامج إدخال الطالب سعيد ضمن الفريق، فاعتذر بداية، لكن بعد إلحاحي وافق مضطرًا، على أن يكتفي بملء العدد. ومع بدء التدريبات، كان المشهد مفاجئًا؛ إذ اندمج سعيد مع زملائه، وتفجرت طاقته الكامنة، حتى حققت المدرسة بفضل الله المركز الثاني على مستوى جدة.

مضت الأيام، وانتقلتُ مديرًا لمجمع تعليمي آخر. وفي يوم المعلم، نظّم زملائي حفل تكريم لي في مدرستي السابقة، فحظيت بعاصفة من مشاعر الطلاب، وهتافاتهم التي لا تنسى. غير أن المفاجأة الكبرى كانت حين اعتلى المنصة الطالب سعيد، وألقى قصيدة من إبداعه، عبّر فيها عن مشاعره تجاهي، بتمكن يذكّر بأداء الشاعر عبدالرحمن العشماوي. كانت لحظة غامرة بالدموع، وأنا أستعيد صورته الأولى وهو يصرّ على رفض المشاركة، فإذا به اليوم يفيض إبداعًا، ويهدي قصيدته لمعلمه ويطبع قبلة على رأسه.

ولم تنتهِ القصة هنا؛ فبعد عشرة أعوام، وفي اثنينية عبدالمقصود خوجة، إذا بشاب يتجه نحوي بابتسامة مشرقة واحتضان دافئ، فعرفته فورًا: إنه سعيد، وقد صار الدكتور سعيد. قدّم لي كتابه الأول، وقال بفخر: “هذا أول إصدار لي.” كانت لحظة جزاء كريم من الله أن أرى غرس اليوم يثمر علمًا وأدبًا.

ومع انتشار وسائل التواصل، بحثت عنه يومًا في منصة “تويتر”، فوجدته يحاضر أمام ما يزيد على مئة وخمسين مثقفًا في المدينة المنورة، يعرض أحد كتبه في تاريخها المجيد. وكأني كنت اتخيل هذه اللحظة عندما كنت اتحدث معه في اللقاء الاول
واقنعه لكسر حاجز الصكت
واستمر تواصلنا بعدها، وظلت إنجازاته تتوالى في ميدانه الطبي والفكري والثقافي

أحمد سعيد الحُريري

مدير رعاية الموهوبين سابقًا

‫2 تعليقات

  1. شكرا ابا رائد
    ما كتبته ليس مجرد سرد، بل شهادة حيّة على أن الكلمة الطيبة، والنظرة المتفائلة، تصنع الفرق. كنتَ –
    ولا تزال –
    من صنّاع الأمل، ومن غرسوا الخير في نفوس طلابهم، فأنبتت منابر ثقافة وطبّ وأدب.
    دمتَ ملهِمًا، ودام غرسك يثمر.

  2. قصة ملهمة ومثل من امثال الرعائية التربوية التعليمية ومثال للقيادة التربوية والتعليمية بامتياز موفقين أ.احمد والدكتور سعيد

اترك رداً على د. عادل علي المحمادي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى