
إذا انسدلَ ستارُ الأرضِ على صفحةِ القمر، فطواه عن عين الشمس، انكسرتْ أبصارُ البشر إلى العلوّ شاخصةً في رهبةٍ تزلزلُ القلوب، وتذكِّرُ بالنقص البشري أمام عظمةِ الخالق وجلالِ التدبير. هنالك يحدّثنا الفلك عن نظامٍ محكمٍ لا يزيغ، ومسارٍ مرسومٍ لا يختل، وحسابٍ دقيقٍ لا يخطئ. غير أنّ الشرعَ الحنيف لا يقف بالروح عند ظاهر المشهد، بل يرفعُ البصرَ إلى آفاق العظة والاعتبار، ليجعل الكسوف آيةً من آيات الله، ونداءً للقلوب كي تفزع إلى بارئها.
لقد وصف أهلُ الفلك الكسوفَ بأنه حجبُ الأرض شعاعَ الشمس عن القمر، في مشهدٍ يتكرر في مواعيد مضبوطة لا تتقدّم ولا تتأخر. وهم محقّون في توصيف الكيفية وضبط المواقيت، ولكنهم وقفوا عند حدود السبب، ولم ينفذوا إلى سرّ الحكمة. أما الهدي النبوي فقد رفع الإنسان من ضيق الملاحظة إلى سَعة البصيرة، إذ جاء عن سيّد المرسلين ﷺ قوله: «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة».
فلم يكن خير الخلق ﷺ يمرّ على الكسوف مرور المتفرّج، بل كان إذا انكسفت الشمس أو القمر فزع إلى الصلاة، يطيل القيام والركوع والسجود حتى يظنّ الصحابة أنه لن يرفع رأسه. أيُّ خشيةٍ تلك التي ملأت قلبه الطاهر؟ وأيُّ مهابةٍ تلك التي عصرت فؤاده الشريف حتى هرع إلى الصلاة، يكبّر ويستغفر ويتضرّع؟ أفلا يليق بالمؤمن أن يخشى كما خشي؟ وأن يفزع كما فزع؟
هنالك، إذ يطوي الليلُ رداءَه على القمر في وضح النهار، وتكتسي صفحةُ السماءِ برداءٍ من رهبةٍ وغموض، يتبدّد نورُها شيئًا فشيئًا كأنّ يدًا خفيّة تُطفئ السراج الأعظم، فتخبو الأرجاء وتضطرب النفوس، وتشهق القلوب كأنها تسمع نذيرًا غيبيًّا يطرق أبوابها. تراهم وقد جمدت أنظارهم إلى الأفق كأنما سُمِّرتْ في قلوبهم مساميرُ الخوف، وأخذت الألوانُ تفقد بهجتها، والأصواتُ تذبل في حناجرها، والريحُ تمرّ ساكنةً كأنّها تستمع لأمرٍ ينتظر الإعلان.
في تلك اللحظة المهيبة يبدو الكونُ بأسره كأنه يتأهّب لنداءٍ عظيم، أو ينتظر قضاءً محتومًا. وإذا بالقمرِ – وهو آية الليل الباهرة – يذوي نورُه، فيغشاه ظلّ الأرض حتى يكسوه السواد كساءَ رهبة، فيغدو كالجسد المسجّى على سرير القدر. هنالك تتزلزل القلوب، ويخفق الفؤاد خشية، ويستيقظ الضمير الغافي على وقع العبرة. فأيّ عبدٍ يشهد ذلك ثم لا ينكسر قلبه؟ وأيّ مؤمنٍ يبصر السماء وهي تكتسي حلّة الهيبة ثم لا يفزع إلى باب مولاه؟
إنّه مشهد يذكّر بيومٍ آخر؛ يومٍ تُكوّر فيه الشمس، وتنكدر فيه النجوم، ويُجمع فيه الناس للحساب. إنها آيةٌ تزلزل قلبَ نبيٍّ مؤيَّدٍ معصوم، فكيف بقلب عبدٍ ضعيفٍ مذنب؟ أفنكتفي نحن بالمشاهدة الباردة والالتقاط العابث للصور، ونغفل عن نداء العبودية؟ كلا وربّ الكعبة.
إنّ الكسوف في حكمته ليس مشهدًا سماويًّا للتأمل وحسب، بل نذيرٌ يوقظ الغافلين، ويردع اللاهين، ويعيد الأرواح إلى ساحة الخضوع والإنابة. وليعلم العبد أنّ صلاته في تلك الساعة ليست طقسًا شكليًا، بل هي ميثاقُ عبوديةٍ يتجدّد، وإعلانُ ضعفٍ بين يدي الجبّار، وشهادةٌ بأنّ القوة كلّها لله، وأنّ الكون بأسره قائمٌ بأمره.
وما العلمُ الفلكي إلا وصفٌ للآية، وأما الهدي النبوي فهو السبيل إلى النجاة: أن يفزع المرء إلى الصلاة، ويستكثر من الدعاء، ويملأ لسانه بالتكبير والاستغفار. فيا عبدَ الله، إذا أظلّك الكسوفُ بظلامه، وألقى على قلبك رهبتَه، فاعلم أنّها ساعةٌ يفتح الله لك فيها بابَ الإنابة، ويذكّرك بمآلك، ويناديك من علياء السماء: أقبل عليَّ قبل أن تُطوى صحائفك، وابكِ على خطيئتك قبل أن يُبكى عليك.
قفْ إذن بين يدي مولاك وقوفَ المذنب الوجل، وارفع يديك كما رفعها نبيّك ﷺ، واملأ فمك تكبيرًا واستغفارًا، وأذرف الدمع كما أذرفه الصادقون، فإنّ دمعةً صادقة في ساعة رهبةٍ كهذه أرجى عند الله من عمرٍ طويلٍ في غفلة.
أيها القارئ الكريم، لا تدع الكسوف يمرّ عليك كأنك تشاهد مشهدًا عابرًا في السماء، بل اجعلْه موعدًا مع قلبك، ونقطةَ تحوّلٍ في حياتك، فربّ آيةٍ واحدة توقظ ما أطفأته سنونُ اللهو، وربّ ساعةٍ من خشوعٍ تعوّض ما ضيّعته أيام الغفلة.
فتذكّر أنّ الليل مهما أرخى سدوله، والسماء مهما غشيتها الظلمة، فإنّ فجرًا يسطع بعدها بنور الله. وهكذا قلبك: مهما غشيه الذنبُ وأثقلته المعاصي، فإنّ توبةً صادقة تُشرق عليه بأنوار الرحمة، حتى يشرق كما يشرق القمر بعد الكسوف.
فيا غافلًا أيقظه الله بهذه الآية، لا تؤجّل العودة، فإنّ العمر قصير، والفرصة قد لا تتكرر، والنداء لا يزال يدوي في أذنك: فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة.


جزاكم الله خيرا يا شيخنا الفاضل