المقالات

حتى لا تكون الخطة الاستراتيجية مجرد وثيقة

في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية، تُعدُّ الخطط الاستراتيجية بمثابة الخريطة التي ترسم للمؤسسات والدول طريقها نحو تحقيق أهدافها. ولكن المفارقة الصادمة هي أن نسبة كبيرة من هذه الخطط محكوم عليها بالفشل حتى قبل أن تبدأ، والغريب أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الدول النامية فحسب، بل تمتد أيضًا إلى أكثر الاقتصادات تقدمًا.

نسبة الفشل: أرقام صادمة

تشير الأبحاث الحديثة إلى أن نسبة فشل الخطط الاستراتيجية مرتفعة بشكل مقلق. ففي استطلاع أجرته شركة “ماكنزي” العالمية، تبين أن نسبة المديرين التنفيذيين الذين يعتبرون استراتيجيات شركاتهم عالية الجودة انخفضت من 35% في عام 2010 إلى 21% فقط في عام 2025، أي بانخفاض قدره 40% خلال 15 عامًا فقط. وهذا يعني أن نحو 8 من كل 10 خطط استراتيجية (أصبحت مجرد وثيقة ) لا تحقق النتائج المرجوة منها بالكامل، وهو ما يمثل هدرًا هائلاً للطاقات والموارد.

الأسباب الكامنة وراء الفشل: تشخيص الداء

وراء هذه النسبة المرتفعة للفشل، ثمة مجموعة من الأسباب المتشابكة، يمكن إيجازها في النقاط التالية:

1. الرؤية الضبابية وغياب القيادة الملهمة: كثيرًا ما تُوضع الخطط بأهداف عامة وغير قابلة للقياس، أو تفتقر إلى رؤية ملهمة تحفز الفرق على العمل. والأسوأ من ذلك هو غياب الالتزام الحقيقي من الإدارة العليا، مما يجعل الخطة مجرد وثيفة.
2. مقاومة التغيير: يميل البشر بطبيعتهم إلى مقاومة التغيير. وعندما لا تُدار عملية التغيير بشكل جيد، وتُشرح مبرراته للفرق المعنية، فإن ذلك يؤدي إلى رفض تنفيذ الاستراتيجية من الداخل، مما يقضي عليها ويجعلها مجرد وثيقة.
3. ضعف التنفيذ والمتابعة: أجمل خطة في العالم لا تساوي شيئًا دون تنفيذ فعال حيث يعدُّ غطاب الآلية الواضحة للمتابعة والتقييم، ومن ثم عدم محاسبة المقصرين، من أهم أسباب الفشل. كثيرًا ما تُصرف الميزانيات وتُبذل الجهود دون آلية واضحة لقياس التقدم الحقيقي. وإن كان لابد لنا من الاشارة الى أحد التجارب الناجحة ( التي عاصرتها شخصياً) ماقامت به جامعة الملك عبدالعزيز قبل أعوام من تصميم برنامج آلي ( أسمته MARZ) يُعنى بالمتابعة والتقويم الاستراتيجي لخطة الجامعة.
4. البيئة الديناميكية وعدم المرونة: نحن نعيش في عالم سريع التغير. قد تنشأ تقنية جديدة أو أزمة جيوسياسية أو منافس غير متوقع بين عشية وضحاها، لتدمر خطة استراتيجية وضعت لسنوات. تفتقر العديد من الخطط إلى المرونة الكافية للتكيف مع هذه المتغيرات الطارئة.
5. نقص الموارد والبيانات التي تشرح وتببن الوضع الراهن كمرتكز ومتطلب سابق لبناء الخطة . وفي أحيان أخرى، تُبني على بيانات غير دقيقة أو تنبؤات خاطئة عن السوق، مما يؤدي إلى قرارات استراتيجية خاطئة منذ البداية.

وقد تحدث العديد من الخبراء العالميين عن هذه المعضلة وطرحوا حلولاً عملية، ومن أبرزهم:
1. البروفيسور ريتشارد رومليت (Richard Rumelt) من جامعة UCLA، الذي ميز في كتابه الشهير “استراتيجية جيدة.. استراتيجية سيئة” (Good Strategy/Bad Strategy) بين الاستراتيجية الفعالة، التي تحتوي على تشخيص دقيق وتوجيه سياسي وإجراءات متسقة، والاستراتيجية السيئة التي تكون مليئة بالشعارات الرنانة والأهداف المتناقضة.
2. البروفيسور روجر مارتن (Roger Martin)، الذي أشار في كتابه “اللعب للفوز” (Playing to Win) إلى أن نجاح الاستراتيجية يعتمد على الإجابة عن أسئلة محورية بسيطة لكنها عميقة: ما هو هدفنا؟ وأين نلعب؟ وكيف نفوز؟ وما القدرات التي نحتاجها؟ وما نظم الإدارة المطلوبة؟
3. مارتن ريفز (Martin Reeves) من مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG)، الذي أكد في كتابه “استراتيجيتك تحتاج إلى استراتيجية” (Your Strategy Needs a Strategy) على أنه لا يوجد نموذج استراتيجي واحد يناسب الجميع، بل يجب اختيار النهج الاستراتيجي (كلاسيكي، تكيفي، تشكيلي) بناءً على طبيعة البيئة التي تعمل فيها.

وحتى لاتكون الخطة مجرد وثيقة :
فإنه لابد من القناعة بأن الفشل الاستراتيجي ليس قدرًا محتومًا. بل يمكن للقيادات الذكية أن تزيد من فرص نجاح خططها من خلال:

1. الوضوح في صياغة الأهداف وتبسيطها.
2. إشراك الفرق المعنيين الرئيسيين من داخل المؤسسة وخارجها في صياغة الخطة الاستراتيجية والتزام بها.
3. المرونة في التنفيذ والاستعداد لتعديل المسار عند الحاجة.
4. الاستثمار في أنظمة المتابعة والتقييم وقياس الأداء ( مثل ذلك البرنامج الآلي MRZ الذي سبق الإشارة إليه) .
5. الاستعانة بأفكار كبار الخبراء والاستفادة من الإطار النظري الذي قدموه.

في النهاية، فإن تحويل الاستراتيجية من مجرد وثيقة جميلة إلى واقع ملموس يتطلب إرادة قوية، وقيادة ملتزمة، واستعدادًا دائمًا لمواجهة رياح التغيير العاتية بالاضافة إلى توفير الممكنات النظامبة والبشرية والمالية بالإضافة الى البنى التحتية اللازمة لنجاحها ولنا في نجاح مستهدفات رؤية المملكة خير دليل على ما نقول
والله من وراء القصد.

• أكاديمي سابق

أ.د. عصام يحيى الفيلالي

أستاذ سابق – جامعة الملك عبدالعزي

مقالات ذات صلة

‫6 تعليقات

  1. حقيقه يا دكتورنا الغالي تحتاج الخطط الاستراتيجيه قناعه من المدير والعاملين معه
    تحتاج تفاني في تحقيق اهداف الرؤيه
    لكن الجهات الخيريه التي تعتمد علي المتطوعين بدون مقابل الفشل فيها اكبر وهذا توقع مني

    1. شكرا جزيلا سعادة الدكتور زهير على ملاحظتكم الكريمة
      وحقيقة فإن من يتابع انجازاتكم سبتأكد أنكم تتدعون خذة استراتيجية وإن كانت غير مكتوبة اكن انجازاتها ومؤشراتها اكبر دليل على وجودها ونجاحها

  2. اتفق مع الدكتور عصام واشكره على هذا المقال القيم المستند على الخبرة والمراجع العلمية.

    انا سيق انا سجلت فيديو يحتوي على تشخيص لحوالى ٢٠ سبب للاخفاق في تنفيذ الخطط الاستراتيجية مع خارطة الطريق للتنفيذ الناجح.

    كما طورت اداء لقياس نضج المنظمات في تطوير وتنفيذ الخطط الاستراتيجية طبق على العشرات من الاجهزة الحكومية والشركات والمنظمات الخيرية يمكنا في تشخيص مواطن الضعف وعلاجها في الاستراتيجيات.

    Dr. 3M

    1. أحسنتم سعادة الدكتور فأنتم مدرسة في عالم وعلم التخطيط الاستراتيجي كثيرا ما ايتفدت منكم ومن علمكم مثل الكثير والكثير من الافراد والمنظمات ولا استغني دائما عن نصحكم وتوجهبكم بارك الله فيكم

  3. اخي د عصام
    أشكرك على طرح هذا الموضوع الهام جدا
    وقد أعجبني جدا المحتوى والتغطيه لجميع الجوانب
    حبيت ان أضيف ان التخطيط الاستراتيجي لا يبنى على احلام لا يمكن تطبيقها على ارض الواقع
    المتابعه الدوريه لسير الخطط ووجود خطط بديله في حال وجود متغيرات غير متوقعه …..
    شكرا لك ولابداعاتك

    1. أشكركم كثيرا سعادة اللواء د/ عمر بكر على مشاركتكم ملاحظاتكم القيمة والتي بلا شك ستثري المقالة والقارئ الكريم وبالفعل فإن الخطة الاستراتيجية ستؤول الى مجرد وثيقة بدون ااموسرات المقاسة والمتابعة الدورية والتقييم الاستراتيجي
      تحياتي لكم يعازة اللواء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى