المقالات

«تعليم جُدة؛ نموذج رائد في التقويم والإشراف»

يشهدُ التعليمُ في عصرنا الحاضر تحوّلاتٍ جذرية ، تتسابق فيها الأمم على استثمار العقول قبل الموارد، لم يعد مقبولًا أن تظل المحاضن التعليمية حبيسة الأدوار التقليدية، تؤدي مهامها اليومية بأساليب مكررة، وتتعامل مع التعليم بوصفه تلقينًا لا صناعة للمستقبل.

لقد أصبح لزامًا على المدرسة أن تكون مركزًا فعَّالًا للتطوير، ومحرّكًا رئيسًا للتغيير، وبيئة خصبة لصناعة الإنسان المبدع، القادر على مواكبة متطلبات العصر.

ومن هنا برزت أهمية التقويم المدرسي والنموذج الإشرافي، بوصفهما حجر الزاوية في بناء مدرسة حديثة واعية بذاتها، مدركة لواقعها، قادرة على قياس أدائها، وتوجيه مسيرتها نحو الريادة.

قبل ثلاثة أعوام انبثقت قصة ملهمة ما تزال ماثلة في الذاكرة، لم تُختصر في شخص بعينه، بل تجلّت في “صوت التقويم والتمكين”، ذلك الصوت الذي تسلَّل إلى الميدان التعليمي ليوقظ العزائم، ويعيد للحلم صوته الواقعي الممزوج بالإنجاز.

لقد أثبتت التجارب التربوية في مختلف الأنظمة التعليمية، أن المدرسة لا يمكن أن تبلغ مستوى التميز ما لم تضع لنفسها آليات دقيقة لقياس أدائها، وتقويم مخرجاتها تقويمًا مستمرًّا، فالتقويم ليس أداة للمحاسبة فحسب، بل هو دليل يرشد المدرسة إلى مكامن القوة لتعزيزها، ونقاط الضعف لمعالجتها، وفرص التطوير لاستثمارها.

إن التقويم عملية تشاركية يُظهِرُ مدى نضج المؤسسة التعليمية، وقدرتها على التعلم من تجربتها، كما أن وجود نموذج إشرافي فعَّال يُعد عنصرًا أساسيًا في هذا البناء؛ لأنه لا يكتفي برصد الأداء، بل يواكب المعلمين في الميدان، ويوجه خُطاهم، ويمنحهم أدوات التطوير المستمر.

وحين يلتقي التقويم الموضوعي بالإشراف الداعم، تنشأ مدرسة قادرة على التجدد الذاتي، وتصبح قوةً دافعةً تقود منظومة التعليم نحو الجودة والريادة.

ويمثلُ مشروع التقويم المدرسي أحد المشاريع الرائدة في التعليم، كونه يُعَدُّ نقلة نوعية في مفهوم إدارة المدرسة وجودة مخرجاتها.

وهو مشروع تتبناه وتشرف عليه هيئة تقويم التعليم والتدريب، ليؤكد أن تمكين المدرسة ليس مجرد مبادرة محلية، بل توجُّه وطني إستراتيجي، يعيد صياغة المدرسة بوصفها الوحدة المحورية للتطوير والتحسين المستمر.

إن هذا المشروع يمنح المدارس صلاحيات أوسع، ويُمكِّنُها من اتخاذ قراراتها، ووضع خططها التطويرية، وتنفيذ برامجها التعليمية، ضمن معايير دقيقة للحوكمة والجودة، تضمن العدالة والشفافية، وتضع المدرسة أمام مسؤولية الأداء والمساءلة في آن واحد.

وبذلك، انتقلت المدرسة من موقع المتلقي إلى موقع المبادر وصانع التغيير، مما أظهر أثرًا إيجابيًا على جودة الأداء ونواتج التعلم.

ولا يخفى أن قوة المشروع ونجاحه لم تكن محصورة في الصلاحيات أو أدوات القياس فقط، بل في خلق ثقافة تعليمية شاملة، تتسع لكل العناصر البشرية والمادية، حيث أصبح الطلاب محور العملية التعليمية، والمعلمون والمشرفون شركاءَ حقيقيين في تطوير الأداء، والإدارة المدرسية صانعة قرار، معتمدة على الأدلة والمعطيات.

وقد أسهم هذا التوجه في تعزيز الانتماء والولاء للمؤسسة التعليمية، ورفع مستوى الاحترافية لدى الجميع، كما جعل من الفشل فرصة للتعلم والتطوير، ومن الإنجاز دافعًا للاستمرار والتفوق.

وأثبت هذه التجربة على أن التمكين الفعلي للمدرسة لا يتحقق بمجرد وضع خطط ورقيَّة، بل من خلال إشراك المعنيين في عملية صنع القرار، وتقديم الدعم المستمر، ومتابعة النتائج وتحليلها بموضوعية، مما يُظهِرُ مدى الوعي الإستراتيجي للقيادة التعليمية، وقدرتها على توظيف الموارد البشرية والتقنية توظيفًا أمثلَ؛ لتحقيق الجودة والتميز.

وهكذا، أصبح للتقويم والنموذج الإشرافي أثر مباشر على كل جانب من جوانب الحياة المدرسية، بدءًا من تطوير الممارسات الصفية، ومرورًا بتحفيز الابتكار لدى الطلاب والمعلمين، وانتهاءً بتقديم تجربة تعليمية متكاملة تحقق رؤية المملكة 2030، في إعداد جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل بكفاءة واقتدار.

ومن هذا المنطلق ،جاءت الحاجة إلى نموذج إشرافي حديث، يعمل على دعم عمليات التعليم والتعلم داخل المدرسة، وفق مجالات متعددة، تبدأ بتحليل الواقع التعليمي، ومتابعة المؤشرات، ووضع الخطط التطويرية، وتنتهي بممارسات صفية أكثر فاعليَّة.

وقد أعاد هذا النموذج صياغة الإشراف التربوي، من كونه مجرد متابعة ورقابة، إلى كونه شريكًا في التطوير، يعمل جنبًا إلى جنب مع قائد المدرسة والمعلمين لتمكينهم ورفع كفاءتهم، وتعزيز أثرهم المباشر على الطالب.

لقد تجلّى أثر هذا التكامل بين التقويم المدرسي والنموذج الإشرافي في نتائج ملموسة؛ إذ ظهر أثره مباشرة على مستوى أداء الطلبة، وتُوِّجَ بحصول تعليم جدة على المركز الأول في الاختبارات الوطنية (نافس) لعامين متتاليين على مستوى المملكة.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى تحقيق ثمانٍ وثلاثين مدرسة في تعليم جدة مستويات متقدمة من التميز.

ويؤكد هذا الإنجاز على أن التغيير الحقيقي يبدأ من المدرسة المُمكَّنة حين تتوافر لها الصلاحيات، ويصاحبها إشراف مهني داعم، يوجُّهها نحو بلوغ أعلى مستويات الجودة والريادة.

ولم يتحقق هذا الإنجاز في تعليم جدة إلا بفضل الله، ثم بفضل قيادة ممكنة ومحفزة، يقودها فكر واعٍ، يؤمن بأن الاستثمار الحقيقي في التعليم يبدأ من المدرسة، ومنحها الثقة والقدرة على إدارة ذاتها، وقد جعلت هذه القيادة التمكين ثقافة عمل يومية، والدعم والإشراف وسيلة لتجويد الأداء، ومن رؤية المملكة 2030 الدليل الذي يهدي مسار التميز التعليمي.

ويبقى صوت التمكين هو القائد الحقيقي للمسيرة التعليمية، يمنح المدارس، والمعلمين، والطلبة، القدرة على مواجهة التحديات بثقة ووعي.

إن التقويم لا يكتفي بالبقاء في دائرة الأداء التقليدي، بل يحوِّل الطموح إلى إنجازات واقعية، ويؤكد أن التمكين ليس شعارًا يُرفع، بل منهج حياة يفتح الطريق لمستقبل تعليمي مشرق ومتميز.

وبذلك، تتحول المدرسة إلى بيئة تعليمية متكاملة، تنبض بالإبداع والمعرفة، وتفتح آفاقًا جديدة للطلاب لاستكشاف قدراتهم وتنمية مهاراتهم، لتصبح نموذجًا يحتذى به في الجودة والتميز، ومصدر إشعاع حضاري يسهم في إعداد جيل قادر على قيادة المستقبل.

سائلين الله أن يبارك في جهود القائمين على التعليم، وأن يوفقهم لكل ما فيه خير للوطن وأبنائه، وأن يجعل مدارسنا منارات للعلم والإبداع، تبني العقول، وتُسهم في صناعة مستقبل.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً على أمين إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى