المقالات

إدارة القيمة في الأصول التعليمية… الطريق إلى الاستدامة

يشهد التعليم السعودي تحولًا جديدًا يتجاوز حدود التنظيم والإدارة. فبعد إعادة هيكلة إدارات التعليم، برز ملف الأصول التعليمية كأحد أهم مجالات التطوير المؤسسي. فالأراضي التعليمية، والمباني الإدارية والمدرسية، والمرافق التابعة للوزارة — والتي تُقدَّر بالآلاف — لم تعد مجرد مواقع تشغيلية، بل ثروة وطنية كامنة تحتاج إلى إدارة حديثة تُحسن استثمارها وتوظيفها بما يخدم التنمية والاستدامة.

بدأت وزارة التعليم خلال السنوات الأخيرة بطرح عددٍ من الأراضي والمباني للاستثمار بالشراكة مع القطاع الخاص، في خطوة تعكس وعيًا متناميًا بأهمية كفاءة الإنفاق وتعظيم العائد من الأصول الحكومية. ومع ذلك، ما تزال إدارة هذه الأصول تواجه تباينًا في الصلاحيات والتنظيم بين الوزارة وإدارات التعليم؛ فبعض المشاريع تُدار مركزيًا وأخرى تُترك لاجتهاد المناطق، مما يؤدي إلى تفاوت في سرعة التنفيذ، ومعايير الطرح، وجودة الرقابة.

المرحلة القادمة تتطلب منظومة وطنية موحدة لإدارة الأصول التعليمية، تتعامل مع كل أرضٍ أو مبنى أو مرفق بوصفه موردًا استراتيجيًا قابلًا للتحويل إلى مصدر إنتاج وتنمية. ولتحقيق ذلك، يمكن تحديد ثلاث خطوات عملية تمهد لهذا التحول النوعي:

أولًا: قاعدة بيانات وطنية شاملة.

ينبغي حصر جميع الأصول التعليمية — أراضٍ، مبانٍ إدارية، مبانٍ مدرسية، مرافق مساندة — وتوثيقها في منصة رقمية موحدة تربط بين وزارة التعليم وهيئة عقارات الدولة. وجود هذه القاعدة سيجعل القرار الاستثماري أكثر دقة، ويُظهر القيمة الاقتصادية لكل أصل، وموقعه، وحالته التشغيلية، وجدوى استثماره المستقبلية.

ثانيًا: حوكمة واضحة لإدارة الأصول.

يُفترض أن تُحدّد الأدوار بوضوح ودقة؛ بحيث تضع الوزارة السياسات والمعايير العامة، وتشرف إدارات التعليم على التنفيذ والمتابعة التشغيلية ضمن صلاحيات محددة، بينما يشارك القطاع الخاص في شراكات استثمارية شفافة ومتنوعة تشمل التأجير، والتشغيل، وإعادة التطوير، وفق حوكمة تضمن العدالة والكفاءة والمساءلة.

ثالثًا: تحويل الأصول التعليمية إلى منصات إنتاج وتنمية.

يمكن للأراضي غير المستغلة والمباني الإدارية أو المدرسية المغلقة أن تتحول إلى مراكز ابتكار، أو حاضنات تدريب، أو مواقع لريادة الأعمال التعليمية، أو مراكز خدمات مجتمعية. فالقيمة الحقيقية ليست في المبنى ذاته، بل في الوظيفة التي يؤديها، والعائد المعرفي والاقتصادي الذي يقدمه للمجتمع المحلي.

إن تعظيم العائد من الأصول التعليمية لا يعني الخصخصة، بل يعني الانتقال من إدارة الممتلكات إلى إدارة القيمة. فحين تُدار مرافق التعليم بوصفها أصولًا معرفية واقتصادية، تصبح عنصرًا فاعلًا في التنمية لا عبئًا عليها.

لقد آن الأوان لإنشاء مركز وطني لإدارة أصول التعليم، يتولى جمع البيانات، وتقييم الكفاءة التشغيلية، ووضع نماذج الاستثمار والتأجير والصيانة، ويعمل بتنسيق مؤسسي مع هيئة عقارات الدولة، وهيئة كفاءة الإنفاق، والهيئات ذات العلاقة، لضمان أن تكون كل أرض أو مبنى تعليمي جزءًا من رؤية استثمارية وطنية واحدة.

عندما تتحول الأصول التعليمية من عبءٍ إداري إلى فرصةٍ تنموية مستدامة، سيولد نموذج جديد من الإدارة التعليمية الذكية — نموذج لا يكتفي بإدارة المعرفة، بل يُحسن إدارة المكان والموارد والقيمة. فالتعليم الذي يُحسن استثمار أصوله، هو التعليم القادر على الاستدامة لا الاستهلاك.

مدير إدارة الاستثمار والشراكات بتعليم جدة سابقًا

# استثمار

د. محمود صلاح العباسي

مدير إدارة الاستثمار والشراكات بتعليم جدة سابقًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى