المقالات

أكرم من حاتم .. وأبخل من مادر

حين تتجلى النفوس بين فيض السخاء وضيق البخل

في كل عصر، تبقى الأمثال مرآةً صافية تُظهر ما خفي من طباع البشر. فقد اختصر العرب التجارب الإنسانية في عبارتين خالدتين:
«أكرم من حاتم» و «أبخل من مادر»،
لتبقى الأولى تاجًا يتوج به السخاء، والثانية وصمةً تلصق بالبخل. هاتان العبارتان ليستا مجرد صورٍ بلاغية من الماضي، بل مقياس حي نزن به سلوك الناس اليوم. فبين “حاتم” الذي يعطي بلا حدود، و“مادر” الذي يمنع بلا سبب، تتكشف الفوارق بين القلوب الرحبة والنفوس الضيقة.

حاتم .. الكرم الذي تجاوز حدود الزمان

يروى أن حاتم الطائي كان إذا نزل به ضيف أضاء بيته كأنما أُشعلت فيه شموع الكرامة. كان يعطي حتى حين لا يملك، ويؤثر غيره على نفسه في زمن القحط. لكن الكرم الذي جعل حاتم رمزًا خالدًا لم يكن في المال وحده، بل في الروح قبل اليد.الكرم الحقيقي ليس ما تخرجه الجيوب، بل ما تفيض به النفوس:
أن تعطي من وقتك، من علمك، من حلمك، من دعوةٍ صادقة لا تنتظر مقابلها.
هو أن تكون حاضرًا في لحظة احتياج الآخرين، وأن تزرع فيهم يقينًا بأن الخير ما زال حيًا.

وهكذا صار حاتم مثالًا للإنسان الذي منح من ذاته حتى صار العطاء جزءًا من اسمه، وصار اسمه مرادفًا للمروءة نفسها.

مادر .. حين يصبح البخل فلسفة حياة

أما “مادر”، فقد خلد التاريخ اسمه على النقيض تمامًا من حاتم. تروي كتب العرب أنه كان رجلًا يعيش في البادية، ذا مالٍ ونعمة، لكنه شديد البخل. ومن أشهر قصصه أنه كان يملك بئرًا في صحراء قاحلة، فمرّ به قومٌ قد أنهكهم العطش، فطلبوا ماءً يسقون به أنفسهم ودوابهم، فرفض أن يعطيهم حتى جرعة واحدة، رغم أن ماؤه كان وفيرًا.

عوتب “مادر” على قسوته، فقال ببرود:

“الماء مالي، ولن يشرب منه أحد إلا بثمن!”

فانصرف عنه الناس وهم يلعنونه، وقالوا قولتهم التي صارت مثلًا:
«أبخل من مادر»،
ليصبح اسمه عنوانًا للبخل المادي والمعنوي، وصورةً لمن ضاق صدره حتى عن فعل المعروف. وهكذا بقي “مادر” مثالًا للبخيل الذي يملك المال ويفتقد المروءة، يملك الماء ويمنع الحياة، فيُذكر لا لعطائه، بل لامتناعه عنه.

بين الكرم والبخل .. يختبر الإنسان

الفرق بين حاتم ومادر ليس في المال، بل في النفس. فالأول وسعته الرحمة، والثاني ضاق به الخوف والطمع. فالكرم يرفع صاحبه مهما قل ماله، والبخل يسقط صاحبه مهما كثرت ثروته. فالكرم نور داخلي يفيض على الآخرين، والبخل ظلام يعزل صاحبه عن الناس وعن نفسه. والأمم التي يبجل فيها الكرم، تنمو فيها الثقة والتكافل، أما التي يتفشى فيها البخل، فيذبل فيها الضمير وتضعف روابطها الإنسانية.

رسالة إلى النفس والمجتمع

في واقعنا اليوم، تتجلى صور الكرم والبخل بأشكال جديدة:
فمن الناس من يجود بعلمه، ومنهم من يبخل بابتسامة، ومنهم من يمنح دعماً صادقاً في لحظةٍ تصنع فرقًا.
والحياة لا تنسى؛ فهي تحفظ مواقف العطاء كما تحفظ مواقف الأنانية.

فاختر أن تكون أكرم من حاتم في موقفٍ بسيط .. ولا تكن أبخل من مادر في لحظةٍ قد تحدد كيف يذكرك الناس.

فالإنسان لا يقاس بما يملك، بل بما يمنح. ولا يخلد بما جمع، بل بما ترك من أثرٍ في القلوب

فبين “حاتم” الذي وهب الماء للحياة، و“مادر” الذي منع الماء عن الظمآن، ترسم خريطة القيم التي تفرق بين الرفعة والسقوط. فالأول سكن الذاكرة بجميله، والثاني سكن الأمثال بذنبه.

فكن أنت الأكرم، حتى ولو كان ما تملكه قليلًا، لأن السخاء لا يقاس بما في اليد، بل بما في القلب.

وفي النهاية… لن يذكر التاريخ كم امتلكت، بل كم منحت.

أ.د. عصام بن إبراهيم أزهر

رئيس وحدة الكائنات المعدية مركز الملك فهد للبحوث الطبية جامعة الملك عبد العزيز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى