
هناك رجال لا يرحلون .. بل يظلون في تفاصيل الحياة في العادات التي أورثوها وفي الخير الذي زرعوه. ومن هؤلاء أبي الغالي الشيخ إبراهيم أحمد أزهـر – غفر الله له – الذي علمنا أن صلة الرحم ليست عادة إجتماعية بل عبادة تمارس بروحٍ محبة. كان رحمه الله — بعد أن يسلم من صلاة الجمعة — ينظر إلينا نظرة الأب المربي ويقول بصوتٍ يفيض بالحنان: “هيا بنا .. فالقريب أولى بالود والجار أحق بالسؤال”
فنمضي معه في رحلة أسبوعية ثابتة ومجدولة قصيرة في زمنها .. عظيمة في أثرها. يطرق أبواب عمتي وأعمامي وأرحامنا ويشد على أيادي الجيران والأصدقاء، ويحيي أصحاب المعروف بامتنان لا ينقطع. لا يطيل الجلوس فالمقصد ليس الضيافة .. بل الطمأنينة: أن نقول للناس نحن معكم .. لا نغيب.
كانت تلك الزيارات — كما كان يردد — تزيل كدر القلب .. وتنعش روابط المحبة وتكتب في صحيفته صلةً وصدقةً واحتسابًا.
ومع كل باب يفتح كان درس جديد يزرع في أعماقنا:
أن من أحب أحدًا .. زار بابه. وأن الرسائل لا تغني عن الخطوة. وأن الود إذا ترك ذبل .. وإذا سقي أثمر وصالًا لا ينقطع. لم يكن أبي يزورهم فقط .. بل كان يزور المعاني: الوفاء .. الود .. الشكر .. الرحم .. فكان يجعل من الجمعة عيدًا صغيرًا ومن الزيارة عبادة صادقة ومن السؤال عن الناس .. لغة حياة. وكان ذلك من مناقبه العظيمة — رحمه الله — فقد كان يرى أن صلة الرحم ليست فضلًا نمنحه للآخرين بل فضلًا من الله يزيد به في العمر ويبارك به في الرزق ويعظم به الأجر.
أثره في مسيرتي وحياتي العلمية
لقد كانت تلك الدروس التي بدت يومًا مجرد نزهات عائلية .. ليست إلا مدرسة قيادية بامتياز. فقد تعلمت أن النجاح العلمي لا يكتمل دون نجاح إنساني وأن المكانة تبنى بالعلاقات الطيبة قبل الألقاب. ومع الأيام أيقنت أن ما كان يزرعه أبي فينا لم يكن فقط حسن الجوار وصلة الرحم بل كان يزرع مهارات الإنسان القائد: القدرة على التواصل احترام الكبير الاحتواء شكر أهل الفضل وصناعة شبكة من المحبة والود تعيننا على متاعب الحياة. ولعل ما وصلت إليه في مسيرتي العلمية والبحثية — بعد فضل الله — كان ثمرة تلك الدروس المبكرة: أن أثر الإنسان لا يقاس بما يملك .. بل بمن يصل. وأن العالِم الحقيقي هو الذي يحمل قلبًا حيا يسأل عن الناس كما يسأل عن الحقيقة.
فالتحية التي كان يلقيها أبي على أبواب الأقارب تحولت اليوم إلى تحية ألقيها على أبواب العلم والإنجاز .. وحين أساند زملائي وطلابي وأصدقائي أتذكر أن أبي هو من علمني أول درس في الإنسانية الأكاديمية. واليوم .. حين نفتقد تلك الخطوات التي كانت تغني الطرقات بالخير نتذكر أن الأب لا يغادر حين تغيب ملامحه .. بل حين نتخلى عن مبادئه.
لذا نحمل وصيته في قلوبنا:
“اجعلوا للمحبة دروبًا لا تضيع .. وللرحم جسورًا لا تنقطع”.
اللهم أجزه عنا وعن أرحامه وأحبابه خير ما يجزى الواصلون .. وأجعل عطر وده يتردد في كل زيارة نقوم بها من بعده واسكنه فسيح جناتك في عليين وألحقه بمن سبقه من الصالحين واكتب له في كل خطوة واصلةٍ وصلًا منك ورحمةً لا تنتهي.
رحمك الله يا أبي .. ستبقى لنا مدرسة الوصل وراية الود التي لا تطوى



