المقالات

الشرقيّة،،، حيٌّ يسكن الذاكرة (8-8)

وجوه المكان،،، وجيرةٌ تصنع التاريخ
النص (2/1)

تنهض الشرقيّة من الذاكرة كلّما نادتها القلوب، وتستعيد ملامحها فينا كروحٍ ترفض أن يُطفئها الزمن. لم يكن الحيّ مجرّد رقعةٍ تتجاور فيها البيوت؛ بل كان فضاءً تتداخل فيه طبقات الذاكرة كما يتداخل الضوء حين يولد الصباح. كان يستمدّ قيمته من أهله، وتحيا جدرانه بأسمائهم، وتطمئن بهدوء مشيتهم، وتزداد رسوخًا بصلابة مواقفهم. هنا كانت الجيرة عهدًا، والسكينة سلوكًا، والقلب هو البوصلة التي تهدي الخطى.

بدأت الحكاية من بيت والدي الشيخ محمد بن عايض الزهراني؛ حيث تفتّحت أولى بذور الطمأنينة. كان — رحمه الله — سكينةً تمشي على قدمين؛ إذا حضر هدأ المكان، وإذا تكلّم أضاءت القلوب. رجلٌ إذا نصح أطفأ بكلماته حيرة السائل، وأيقظ بصيرة المستشير. في بيته تربّى احترام العلم، وكان المجلس رحابةً تشبه رحابة قلبه.

وكان والدي أيضًا إمام المسجد ومطوّع الحي؛ صوته يفتح أبواب الطمأنينة قبل أبواب السماء. لم يكن يؤمّ الصلاة فحسب، بل كان يؤمّ الأرواح إلى مكارم الأخلاق، مذكّرًا — بصمته قبل صوته — أنّ الدين سلوكٌ قبل أن يكون قولًا. كان بيته موئلًا للعلم والمشورة، ومجلسه يتّسع لكل من طرق بابه؛ فبه اتّزن الحي، وصار مجلسه مدرسة نورٍ لا تنطفئ، ومرجعية أخلاقٍ لا تغادر الذاكرة.

وبجواره امتدّ بيت سعيد بن ردة الزهراني؛ شيخ الكرم وسند الحي، رجلٌ تحفظه الذاكرة كما تحفظ العيون تفاصيل الصباح. ومعه ابنه عبد العزيز الوقور، وأقاربهم من زهران: العم تهامي، وعبد الرحمن الربيع، ولن سعد ومديس، وسفر، وبن حسن، والوزاب، والعبيدي، وآل سعدي، والعلوي؛ وجوهٌ صنعت حضورها بالكرم والمروءة والهدوء والحكمة، وكانت تمشي في الحي كأنها تصلّي بأخلاقها.

وعلى مقربةٍ منهم علت بيوتٌ يفوح منها عبق العلم وهيبة السمت: بيت شيخنا الإمام البرناوي، وبيت القائد علي بن سليم الشهري الذي نشأ فيه اللواء الطيّار محمد — رحمه الله —، وبيت المربّي النبيل أنور عسيري، صاحب المكتبة الخاصة التي أنارت دروب الشباب، وبجواره بيت أحمد عسيري بدماثته وطيب معشره، الذي أورث الحي ابنه الفنان حسن عسيري.

ومن عسير حضرت أسماءٌ خُطّت في ذاكرة المكان: المقدّم إبراهيم وأحمد طويل، والذيب وهادي، وحسن، وعامر، وعبده، وعبد الله، وماطر عسيري، والمقصودي، والعبسي، والعقيد شعشوع عسيري. وليس بعيدًا عنهم بيت الزعيم عوض الحارثي؛ رجالٌ جمعوا بين الهيبة والبساطة والنقاء، وبنوا حضورهم بالصمت أكثر مما بنوه بالكلام.

وفي موضعٍ آخر ارتفع البيت الكبير لأسرة الزعيم مشبّب الشهري، ونجله اللواء الطيّار جمال، المطلّ على مسجد الحي «البحّة». وإلى جانبه بيت القائد العسكري سعد الفريح، وبيت سعيد الحضرمي ببقالته العامرة وحسن عشرته، وبيت العقيد علي بن صالح القحطاني، وعبد الرحمن المنصوري،والجعيد وعبده مطيع المعروف ببيع البهارات، ومجاوره البهلول؛ رجالٌ كانت ابتساماتهم بوّابات ودّ لا تُغلق.

ويستمرّ المشهد في النص التالي، حيث تتّسع الدائرة، وتكتمل الوجوه، وتبلغ الذاكرة ذروة حضورها

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى