
منذ أن عرف الإنسان طريق التعاون والإيثار، كان لأهل هذه الأرض المباركة سِمَةٌ تميّزهم وتدلّ على معدنهم الأصيل، إنها “الفزعة”؛ تلك الكلمة التي تختصر في حروفها الصغيرة معاني الشهامة والرجولة والنجدة، وتُجسّد مفهوم التطوع كما لم تعرفه الكتب أو تُنظّمه المؤسسات.
قبل أن تُكتب الأنظمة، وقبل أن تُطلق المبادرات التطوعية في القوائم الرسمية، كان السعودي يهبّ من فوره حين يسمع نداء الحاجة، لا ينتظر طلباً ولا يرجو شكراً، بل يتحرك بدافع الفطرة، وبإحساس الانتماء العميق للمكان والإنسان.
فحين كانت السيول تجتاح القرى، كان الرجال يتسابقون – بالمجارف والمعاول – لتغيير مجرى السيل، يسهرون الليل على ضوء “الأتاريك” ليقللوا الخسائر ويحفظوا بيوت جيرانهم ومزارعهم؛ لا أحد يسأل: “لمن هذا البيت؟” أو “كم سأُعطى؟”… بل كان السؤال الوحيد: “كيف نساعد؟”
وفي مواسم الزراعة، كانت الفزعة عادةً لا تغيب ؛يجتمع أهل القرية لصرام نخيل فلان اليوم، وغداً لصرام نخيل آخر؛ لا يُعد ذلك تفضلاً، بل واجباً غير مكتوب؛ حتى البهائم كانت تُسهم في التطوع، حين يُعير أحدهم جماله أو حميره لجاره ليُكمل موسم “الدواسة” بعد حصاد القمح.
وعندما يشتري أحدهم أرضاً ويريد أن يزرعها، تهبّ الأيدي لمعاونته في حفر البئر، وفي البناء وصناعة الطوب من الطين، وكلٌّ يؤدي دوره: هذا يخلط، وذاك ينقل، وآخر يبني الجدار – كأنهم خلية نحلٍ من أجل الخير.
وفي حال اشتعلت النيران في نخيل أحدهم، لم يكن الحريق يخصّ صاحبه فقط، بل يخصّ القرية بأكملها؛ يجري الجميع بالماء والقرب والقدور والفؤوس، يطفئون النار وكأنها التهمت شيئاً من قلوبهم.
حتى في الأفراح، كان التطوع حاضراً بكرمٍ لا يُوصف؛ فالزواج مناسبة جماعية بامتياز: هذا يُسهم في المهر، وذاك يُعير أدواته – من الحصر والحنابل إلى “الدلال” و”النجر” و”الاتاريك” — وكلّها تهيئ العروسين لبداية حياتهما دون عناء.
وحين يأتي العيد، نجد من يذبح الأضاحي نيابةً عن جيرانه من المحتاجين، ممن غاب عائلهم أو توفي، لتبقى البهجة عامرة في كل بيت.
كانت تلك المواقف الصغيرة، الممتدة عبر الأجيال، تشكّل نسيجاً من القيم التطوعية المتجذّرة في الشخصية السعودية؛ واليوم وإن تغيّرت الأدوات والمسميات، فإن الجوهر لم يتبدل؛ فالفزعة التي كانت تُنقذ المزارع من السيل، هي ذاتها التي تُنقذ الأرواح في الكوارث، وتُسهم في البناء، وتُضيء مستقبل الوطن عبر ملايين الساعات التطوعية التي يسجلها أبناء وبنات المملكة كل عام.
إنها “الفزعة السعودية” التي تحوّلت من عادة إلى ثقافة، ومن ثقافة إلى رؤية، ومن رؤية إلى ممارسة يومية تُجسّد روح العطاء التي لا تعرف التوقف.
مبارك بن عوض الدوسري
@mawdd3






